لماذا لا يعترف بالخطأ كُلّ من أصرّ على محاكمة مبارك كمُهمّة أولى من مهام الثورة، وتوهم أنها تستحق كل الاهتمام والطاقة، ووعد الناس بالمكاسب من هذا الاختيار، وأصمّ أذنيه عن الاختيارات الأخرى بل اتهم أصحابَها بالعداء للثورة؟ وهل كان كل هؤلاء يثقون مئة بالمئة من أن محاكمته وفق قوانينه التى وضعها بنفسه، إضافة إلى القوانين التى تلقفها من عصور سابقة وتمسّك بها، يمكن أن تؤدى إلى إدانته كما يأملون؟ وهل يحقّ لهم، أخلاقياً وسياسياً وقانونياً، أن يعترضوا عندما لا يجئ الحكمُ على هواهم؟ ثم، هل يجوز للمصابين بفوبيا السيسى أن يتهموه، فى أول ردود أفعالهم على الفيس بوك بعد حكم براءة مبارك، بأنه وراء التبرئة؟ فقد أحيل مبارك للمحاكمة عندما كانت البلاد تحت حُكم المشير طنطاوى، ليس بمبادرة منه وإنما بضغط هائل من الرأى العام، وأذعن الرجل بينما كان يبدو عليه عدم الترحيب بهذه الخطوة، وقد تَكَشَّف فيما بعد عن أن الإخوان هم الذين كانوا يُحرِّكون المشهد تحت شعار »القصاص، القصاص«، وتبين أن هذا كان بقصد إلهاء الجميع فى محاكمة الماضى، بينما يسعون هم بكل طاقتهم لصنع مستقبلهم وتأمينه، بطبخ دستورهم والاستيلاء على غرفتى البرلمان، والجلوس على كرسى الرئاسة، وزرع رجالهم سراً فى آلاف المناصب فى عموم البلاد، والعمل على اختراق الداخلية والجيش، والتآمر على فصل أكثر من ثلاثة آلاف قاض لزرع رجالهم على منصات المحاكم..إلخ، بينما انجرف الجميع فى دوّامة محاكمة مبارك بوهم أنها الطريقة الوحيدة التى تضمن رجوع الأموال المُهرَّبة للخارج! وضاع فى هذا الضجيج كلُّ نصح وتحذير يإمكانية البراءة وبعدم ضمان عودة الأموال، وهو الذى اتضح الآن! فأين السيسى من كل هذا؟ المؤكد أن 25 يناير خسرت الكثير بتبرئة مبارك، وليس هنالك ما يمنع الثورة من الاعتراف بفشلها فى أحد المهام، بل إن المكابرة تعنى المزيد من الفشل، كما أنه على 30 يونيو الإقرار بأنه ليس لها فضل فى خسارة الإخوان فى ثورتهم المزعومة فى 28 نوفمبر، التى لحقت بهم نتيجة لأخطائهم التى يتطوعون بها ضد أنفسهم وكأنهم يُنفِّذون مؤامرات أعدائهم المرسومة ضدهم بعناية! وهذا يعنى أن الإطاحة بمبارك من الحكم، والإخوان من بعده، كان بفضل حركة وتضحيات عشرات الملايين من الجماهير، ولكن المتصدرين بعد ذلك، لثورة يناير ولحركة تصحيحها فى 30 يونيو، لم يفلحوا فى النيل من أعداء الثورة، لا مبارك ولا الإخوان، بعد أن أُطيح بهما، وهذا أدعى لمراجعة اختياراتهم وكيفية التعامل معها، ولإعادة التفكير فى البدائل الأخرى التى كانت مطروحة، ليس من باب الاكتفاء بفهم أخطاء الماضى، وإنما الأهم للاستفادة بهذا الفهم فيما هو آتٍ. لم يَحسِب الثوار، خاصة أصحاب الصوت العالى، ما كان عليهم أن يحسبوه بمنتهى الدِّقَّة من مخاطر احتمال أن تؤدى محاكمة مبارك، بهذه التهم ووفق القوانين السائدة، إلى تبرئته التى كانت واضحة للكثيرين. (كتبتُ مقالاً فى جريدة »التحرير« بتاريخ 12 أغسطس 2011، بعد أيام من أول جلسة لمحاكمته، بعنوان: »نعم.. يمكن تبرئة مبارك«، ثم نشرتُ مقالاً، فى »البوّابة نيوز«، فى 25 نوفمبر الماضى قبل أيام من الحكم الأخير، بعنوان: »ولكن المستقبل أهم من محاكمة مبارك«، عن ترجيح ألا يصدر الحكم مُرضياً لمن عارضوا مبارك)! ولكن العجب العجاب أن هناك من أصيب بالدهشة من حكم البراءة، وكأن المحكمة تقضى بما هو خارج القوانين القائمة، وكأنه يمكنها أن تتجاهل ما هو بين أيديها من تحقيقات وأدلة وشهادة الشهود، وكأن من سعوا لذلك لا يعلمون أن المشوار القضائى يستغرق مراحل: فى الجنايات، ثم النقض، ثم دائرة استئناف أخرى، ثم يجوز الطعن أمام محكمة النقض التى قد تنظر بنفسها فى النزاع بصفتها محكمة موضوع! ألم يُحسَب أثر الانتظار لسنوات على إيقاع الفعل الثورى؟ وقد تجسَّد واحد من أهم عناصر المشكلة التى ترتبت عليها هذه الخسارة، فى سلاح الابتزاز الذى ساد، والذى هو سائد حتى الآن، حيث الاتهام لكل صاحب رأى آخر بأنه مع الثورة المضادة، وأنه من الفلول المستترين، وأنه من عبيد البيادة، حتى انزوت فكرة العدالة الانتقالية، والتى كان يمكن الاستفادة منها، وقد طُرِحتْ مبكراً مع بداية الثورة، وكانت الاختيار الأمثل الذى اجتازت به دول أخرى ظروفاً مشابهة! ولكن الإخوان بذلوا كل طاقتهم لخنقها فى مهدها لأنه كان سيترتب عليها أشياء كثيرة منها مشاركة الجميع فى بناء الدولة التى تحقق للجميع ما هو مشترك بينهم، ونجح الإخوان فى جعل أصحاب الصوت العالى يتحمسون لفكرة القصاص، التى كان يُلقِّنها مرشد الإخوان لمرشحه فى الرئاسة فى أول مؤتمر صحفى له. الحقيقة التى هى آخذة فى التجلِّى كل يوم بأكثر من سابقه أن الإخوان قاموا بأدوار تخريبية لم يتضح منها حتى الآن سوى بعض جوانب بعضها! لأن جشعهم للهيمنة والاستفراد هو الذى ضيَّع فرصاً عديدة، بل إنه أدّى إلى خسارتهم أنفسهم كل شئ، وها هم لا يدركون، حتى الآن، أن جماعتَهم وأشخاصَهم فى أزمة كبرى، وأنها الأكبر فى تاريخهم، وأنها ضربت حاضرَهم ومستقبلَهم بما لم يحدث لهم قط! وبرغم كل ما وقع لمبارك منذ أطيح به، فإنه قد تحقق له، وبفضل الإخوان، أفضل النتائج، بالبراءة من محكمة فرضها عليه مَن ثاروا ضده، ولم يخترها هو! وجعلوه يَسعَد وهو يرى أبناءه من الحزب الوطنى يخوضون معركة البرلمان متخففين من التهم التى علقت به كرمز لهم! وأما دعاة الثورة الذين خسروا، فى اختيارهم أن يُحاكَم مبارك بما حُوكِم به، فأمامهم البرلمان، ليس فقط ليفوزوا وإنما لكى يعملوا على عدم إنجاح من قامت الثورة ضدهم. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب