لسنا ممن يميلون إلى رفع سهام الاعتراض المسنونة، بمناسبة أو بغير مناسبة، إزاء «تصرفات السيادة» التى تمارسها مؤسسة الرئاسة المصرية وسائر الهيئات الممثلة للدولة المصرية فى هذه الفترة الفاصلة من تاريخ مصر الحديث، من خلال سعيها، فى المجال الاقتصادى مثلا، إلى إقامة عدد من المشروعات الوطنية الكبرى. و قد لا نرى بأساً من مثل تلك «الطروح الاقتصادية» التى قدمتها الرئاسة المصرية منذ توليها المسئولية قبل شهور، تأسيساً منّا على أمرين : أولهما أن التنمية وفق التجارب التاريخية تتطلب القيام فى البداية بما يسمى «الدفعة القوية»، من خلال ضخ مقادير كبيرة نسبياً من رأس المال فى أنشطة تنموية ذات غايات مرتبطة فى نهاية المطاف برفع مستوى المعيشة للغالبية الاجتماعية المنتجة. وثانيهما، أن من المهم فى هذه الفترة من تطور الاقتصاد المصرى أن تتم زيادة مستوى الإنفاق الحكومى أو العام من أجل تنشيط عملية التشغيل للموارد البشرية والطبيعية، وتوليد زيادات متوالية تنتهى إلى ارتفاع مستوى الناتج المحلى الاجمالى بعدة أضعاف عما بدأ به مستوى الإنفاق الأوّلى، وهو ما يسمى بأثر «المضاعف». لهذين الاعتبارين، لا نجد دافعاً قوياً للاعتراض، من حيث المبدأ، على «أعمال السيادة العليا» للقيادة السياسية المصرية فى الميدان الاقتصادي، التى انطلقت من مدخل «المشروعات الكبري» أو العملاقة؛ فتلك مما يمكن توظيفه اقتصاديا فى إطار «الدفعة القوية» و «مفعول المضاعف». بيْد أن أمانة العلم الاقتصادى تقتضى التذكير بأهمية أن تتم «الدفعة القوية» فى إطار الضرورات التنموية المتمثلة فى إحداث تحولات هيكلية من خلال تغيير صيغة التناسب بين القطاعات المولدة للناتج المحلى الإجمالي، لمصلحة قطاعيْ الصناعة التحويلية و الخدمات العلمية- التكنولوجية بالذات. كما أن تلك الأمانة تقتضى أن تتم الدفعة القوية، ومقادير الإنفاق العام الأوّلي، فى إطار رفع معدل الادخار المحلى ومعدل الاستثمار إلى المستويات القابلة للمقارنة مع الخبرات التنموية المعاصرة. وقد لاحظنا أن « المشروعات العملاقة « المطروحة، والجارى تطبيق البعض منها، تندرج بصفة أساسية ضمن القطاع الخدمي، وخاصة خدمات النقل والتوزيع والتجارة والسياحة والإسكان. يتضح ذلك من استعراض قائمة مختصرة بهذه المشاريع، و على سبيل المثال، بدءً من المشروع الوطنى لشق مجرى فرعى جديد لقناة السويس، مروراً بمشروع الخدمات التعبوية ( اللوجيستية ) عند ميناء دمياط من أجل تحويل مصر الى معبر دولى للتجارة عبر الحدود وتجارة الغلال، إلى المشروع التسويقى - التجارى المزمع شمال غرب خليج السويس. وبغض النظر عن «الإرث السييء» للمشاريع الكبرى والعملاقة فى أواسط التسعينيات ( توشكى - فوسفات أبو طرطور مناجم حديد أسوان شرق العوينات .... إلخ ) وما مثلته من هدر مالى ضخم ربما شابه فساد، دون تحقيق عائد ايجابى موازن للاستثمار، فإن المشروعات العملاقة الراهنة ليس من شأنها إحداث التحول الهيكلى المنتظر للاقتصاد المصرى بالمعايير التنموية. و الحقيقة أن مشروعات الخدمات، وخاصة ما يتصل منها بالجانب الدولي، تكون خاضعة بوتيرة عالية لأثر التقلبات الدورية فى الاقتصاد العالمى عبر الزمن، وبالتالى فإن مستوى تطور الاقتصاد المصرى يكون مرهوناً إلى درجة خطيرة بالمتغيرات الخارجية . ولنا شاهد قوى على ذلك مما جرى للاقتصاد المصرى بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، جرّاء الاعتماد المفرط، فيما سبق، على الأنشطة الخدمية و ذات الطابع «الفقّاعي»، وخاصة السياحة والإسكان والعقارات والاتصالات و بعض الصناعات الاستهلاكية. وإنما تقاس التحولات الهيكلية بمدى عمق التوجّه نحو بناء اقتصاد وطنى يملك مستوى معينا من قدرة (الاعتماد على الذات ) دون إفراط و لا تفريط، انطلاقا من قطاعين محوريين هما الصناعة التحويلية (وليست الصناعة الاستخراجية القائمة على التعدين والبترول ) والخدمات العلمية التكنولوجية. والحال أن التوجه الخدمى الرئيسى للاقتصاد المصرى فى الوقت الراهن قد لا يخدم العملية الهادفة الى تحقيق التحول الهيكلى المرجوّ بالمفهوم السابق ، خاصة فى ضوء إغفال ضرورة رفع نصيب الصناعة التحويلية من الناتج المحلى الاجمالى من حوالى 15% أو 16% كما هو الحال منذ عقود ، الى المعدل المرغوب تنموياُ والذى لا يقل عن 25% وفقا للخبرات المناظرة للبلدان السائرة على طريق النمو . كما تنبغى الإشارة الى أهمية أن يتحقق التحول الهيكلى اعتماداً على رفع معدل الادخار المحلى الذى لا يزيد على حوالى 14% ليتوازن مع معدل الاستثمار فى حدود 25% أيضا، ما أمكن ذلك، وبحيث يتم توجه المدخرات استثمارياُ الى قطاعات التحول الهيكلى ذات الأولوية. ونرى فى ضوء ما سبق أهمية التركيز على أمرين جوهريين : الأمر الأول، تنمية القطاع الصناعى التحويلي، بالتركيز على الصناعات الموجهة لسد احتياجات الاستخدام المحلي، إنتاجيا واستهلاكيا، مع توجيه « الفائض» إلى التصدير، وهذا ما يسمى بمنهج « إحلال الواردات»، سعيا إلى تحقيق الهدف التنموى طويل الأجل ، بالإضافة إلى المساعدة فى التغلب على عجز الميزان التجارى فى الأجلين الصغير والمتوسط، من خلال تخفيض مستوى الواردات. و لا يتناقض هذا التوجه، بل ربما يتوافق مع بناء فروع صناعية مخصصة للتصدير، علما بأن ظروفنا الدولية لم تعد تسمح بتكرار «النموذج الشرق-آسيوي» القائم على التوجه التصديرى الغالب لعملية التنمية والتصنيع. وإنّا لنعلم أن هناك محاذير ومحظورات عديدة على «إحلال الواردات»، فيجب أخذها بعين الاعتبار، وخاصة من حيث أهمية التحول من تصنيع بدائل الواردات الاستهلاكية الى تصنيع السلع الانتاجية، بالإضافة الى ضرورة تفادى الخطأ المتمثل فى إهمال القطاع الزراعي- الغذائي. وهنا تشير الدلائل الإحصائية الموثقة للاقتصاد المصرى الى إمكانات كبيرة نسبيا للتوسع فى القطاعات الصناعية ذات الدرجة الأعلى من حيث « الكثافة الاستيرادية»، و خاصة صناعات السيارات، والآلات والمعدات، والكيماويات والأدوية، وبعض الألياف النسيجية، والأغذية. الأمر الثاني، تنمية القطاع التكنولوجي، فى اطار التعاون الدولي، ابتداء من تأسيس قاعدة لتصنيع «شرائح السيليكون»، التى هى الركيزة الأولى لصناعة المكونات الإلكترونية الأساسية (الإلكترونيات الدقيقة)، والأجهزة الالكترونية، استهلاكية كانت أو إنتاجية، أو مهنية متنوعة. ولا تتطلب صناعة السيليكون من المادة الأولية سوى الرمال، فما أقرب منالات هذه الصناعة الواعدة !. ونعلم أن هناك مقترحا أوليا للصناعة المذكورة، فنرجو أن يعطى الأولوية الواجبة على مستوى الاقتصاد الوطني. وإن قيل إن النهج الرئاسى المصرى الحالى لا يقتصر على الخدمات ، وإنما على أنشطة استصلاح الأراضى والزراعة، فإن من المهم أن نذكر أن هناك قيداً حديدياً على التوجه نحو التوسع الكبير فى هذه الأنشطة من واقع محدودية الموارد المائية . فلذلك تتأكد مرة أخرى أهمية ولوج المعراج التنموى الحقيقى بالمعايير العصرية، قياماً على الساقين الصحيحيْن لإحلال الواردات المصنّعة، و الشرائح الدقيقة السيليكونية..! أستاذ الاقتصاد الدولى فى معهد التخطيط القومى لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى