الموسيقي لغة لا تعرف الحدود ولا المسافات, لغة عالمية لا تعرف الحواجز ولا تعترف بالفوارق بين البلاد التي تسكن شمال البحر المتوسط أو جنوبه, لغة لا تحتاج لجواز سفر لتنتقل من المملكة المتحدة أو الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أو اليونان أو إيطاليا الي حديقة الأزبكية في قلب مصر المحروسة.... هذا ما تؤكده هذه الوثيقة التي أعرضها هذا الأسبوع وهي عبارة عن ملف أوراقه صفراء عن الموسيقي في حديقة الأزبكية يحكي الكثير عن المزيكا في المحروسة زمان وبالتحديد في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, والملف يضم طلبا مقدما من السيد براكال مدير أحد الاوركسترات الي السيد بريمدير عموم التنظيم والمشرف علي حديقة الازبكية يطلب فيه السماح للأوركسترا الذي يقوده بالعزف في حديقة الازبكية لتحل محل فرقة الموسيقي العسكرية المصرية, وبالفعل تمت الموافقة علي الطلب وتم توقيع العقد لمدة ثلاثة أشهر بتاريخ9 مايو1899 والذي نص علي أن يقوم السيد براكال بإحياء ثلاث حفلات موسيقية إسبوعيا في الحديقة لمدة ساعتين من السادسة وحتي الثامنة مساء تعزف فيهما8 قطع موسيقية بواسطة الأوركسترا الذي يقوده والمكون من20 عازفا علي ان يتم تحديد الأيام بمعرفة إدارة الحديقة بشرط أن تتنوع هذه القطع الموسيقية لتواكب العصر وتنشر البهجة, ويبلغ قيمة إيجار الكشك الموسيقي60 جنيها مصريا في الشهر يدفعهم براكال في مقابل أن تقوم الحديقة بتوفير كل مستلزماته وما تطلبه الفرقة الموسيقية من خدمات, كما ينص العقد علي أنه في حالة حدوث أي مشاكل يمكن الرجوع الي السيد كليمنت مسئول المسارح الخديوية لفض المنازعات... ويمكن تجديد العقد إذا استلزم الأمر في حينه. ويبدو أن الموسم الموسيقي للسيد براكال في كشك حديقة الازبكية كان ناجحا فقد أعاد تقديم نفس الطلب عام1901 ولكن بفرقة مكونة من25 عازفا من مختلفي الجنسيات وزاد في طلبه أنه يرغب في إقامة حفلات ليلية. ويضم الملف أيضا أخبارا عن الفرقة الإيطالية التي تعزف بأحد الكشكين الموجودين بالحديقة وكشف حساب بمصروفاتهم والأيام التي يقومون بالعزف فيها وهي الأحد, والأربعاء والجمعة. ولكن الوثيقة الأطرف في الملف هو الخطاب المرسل من المواطن حسين فهمي بتاريخ14 أبريل1900 الي إدارة الحديقة يطلب فيه من السيد بري تقديم طلب الي الحربية لاستقدام موسيقي البيادة- الموسيقي العسكرية- للعزف في أحد أكشاك الحديقة الخالية بمناسبة يوم شم النسيم حيث إنه باعتباره خبيرا في الشئون الموسيقية كما أطلق علي نفسه يعرف أنها ستكون خالية من الأشغال في هذا اليوم ويمكنها أن تعزف في الفترة من5 وحتي7 مساءا وقت إنشراح الهواء وصفو الرياح واعتلال النسيم مع التنبيه عليها بعمل بروجرام- برنامج- يناسب أذواق الجمهور وأن يكون اشتغال المزامير أسوة بالمزامير الإنجليزية أي سيرا حول كشك الحديقة, كما طلب نشر البروجرام في الجرائد الأفرنجية كالبروجريه والاجيبشان جازيت لحث الجمهور علي الاهتمام والحضور لسماع الأنغام الشجية واكتساب الرياضة بحديقة كادت أن تباهي حديقة هايد بارك بلوندرة أي لندن. وفي نهاية الخطاب يتمني المواطن أن يعم السرور والإنشراح علي جمهور المتنزهين في حديقة الأزبكية. كما يضم الملف أيضا طلبا آخر مقدما من الخواجة سانتلس نيقولابيدس الي مصلحة تنظيم مصر يلتمس التصريح له بإيجاد أوركسترا موسيقي بجنينة الأزبكية بتاريخ18 سبتمبر1911. وفي مثل هذه الأحوال وبعد الاتفاق مع الفرق الموسيقية كانت إدارة الحديقة تقوم بطباعة ووضع إعلانات لإعلام الجمهور بأن هناك جوقة موسيقية ستقوم بالعزف ثلاث مرات في الأسبوع( الأحد, الأربعاء والجمعة) من الساعة الخامسة وحتي الثامنة مساء وستكون أجرة الدخول عن كل شخص في الحديقة مدة عزف الفرقة عشرة مليمات بدلا من خمسة ويعفي من هذه الزيادة المشتركون في الحديقة فقط. ومن هذه الوثيقة نتبين أن حديقة الازبكية كانت تهتم بنشر الموسيقي والترويح عن زوارها وتقديم الفنون الحديثة بشكل راق يواكب ما يدور في الدول المتقدمة وأن القائمين علي إدارة شئون الحديقة كانوا يدركون جيدا أهمية الموسيقي كغذاء للروح فكانوا يستقدمون الفرق الموسيقية والاوركسترات من كل أنحاء العالم لتقديم وجبة موسيقية شهية لزوار الحديقة وروادها الذين يبدو أنهم كانوا من كل فئات المجتمع حتي أن الحديقة كان لها مشتركون وزوار دائمون يتمتعون بمعاملة خاصة. ومن المعروف أنالخديوي إسماعيل هو المؤسس الحديث للأزبكية وذلك عندما عاد عام1867 م من زيارته لمعرض باريس, فبهره العمران الحديث في باريس وحدائقها, فأقدم علي الأزبكية لتكون علي شاكلتها وأعاد تخطيط الميدان نفسه, فتم ردم البركة التي كانت تتوسط الميدان, وأنشئ في نفس مكانها الحديقة علي يد المهندس الفرنسي باريل ديشان بك, علي مساحة18 فدانا أحيطت بسور من البناء والحديد وفتحت بها أبواب من الجهات الأربع. وأقام الخديوي إسماعيل في طرفها الجنوبي مسرحين هما المسرح الكوميدي الفرنسي الذي أنشئ في2 نوفمبر1867 م وافتتح في4 يناير1868 م تحت إدارة الخواجة منسي, ودار الأوبرا الخديوية, وبعد الانتهاء من تشجير الحديقة وتزيينها وإنارتها عين الخديو مسيو باريليه الفرنسي ناظرا لها ولجميع المتنزهات الأخري, وكانت تقام بالحديقة العديد من الاحتفالات الرسمية والشعبية الكبري للأجانب والمصريين, ففي يونيو1887 م تم الاحتفال بعيد الملكة فيكتوريا من قبل الجالية الإنجليزية في مصر, واحتفال الجالية الفرنسية بعيد14 يوليو, أما الاحتفالات المصرية في الحديقة فكان أبرزها الاحتفال بعيد الجلوس السلطاني واحتفال الجمعيات الخيرية والمحافل الماسونية, وكانت الموسيقي العسكرية تعزف في الاحتفال الأول, إلي جانب إقامة السرادقات في احتفالات الجمعيات وحفلات المطربين, وأشهرهم الشيخ يوسف المنيلاوي وعبده الحامولي, ومحمد عثمان. ومن المؤسف ما تتعرض له حديقة الأزبكية الآن من إهمال وسيطرة الباعة الجائلين والبلطجية عليها وقتل وتدمير للنبات والأشجار النادرة بها مما جعلها تفقد كل ما كانت تتمتع به من سحر وجمال في الماضي, فهل من منقذ للحديقة, وهل من مسئول ينتبه لما آلت اليه منطقة عزيزة في قلب المحروسة من تخريب وتدمير, فيمد يد العون اليها لتعود جوهرة جميلة تشع حضارة وثقافة وفنا وجمالا علي أهل المحروسة.