الثاني من يونيو موعدنا مع الحكم التاريخي في قضية مبارك وأعوانه. يقول القانونيون إن الحكم عنوان الحقيقة. ونحن نريد أن نترك للتاريخ والأجيال القادمة كلمة حق ناصعة عن عهد مبارك. اشعر بشفقة هائلة علي القضاة الذين يتصدون لهذه المهمة. غير أن الشك في عدالتهم ليس له إلي القلوب سبيل. ستنطق المحكمة بالعدل والحق, ولكن هل سيأتي الحكم مقنعا للأجيال القادمة.؟ أستاذنا الجليل نجيب محفوظ يعلمنا درسا بليغا في هذا الصدد هو أن الحقيقة دائما ما تتلون بلون الراوي. حتي لو كان الجميع يتحدثون عن نفس القصة بنفس أبطالها وأحداثها. هذا ما تجلت به حكمته علي صفحات روايته الجميلة العائش في الحقيقة. اخناتون الذي خلعه الكهنة وقادة الجيش, وصفه أعداؤه بالمارق المجنون المخرب. بينما اعتبره أنصاره ملاكا طاهرا وروحا نقية أطاح به الأوغاد لمصلحتهم لتنطفئ من بعده روح الجمال وتجف ينابيع السرور. بين أولئك وهؤلاء راح الفتي الأسمر النحيل ماري مون يتنقل ليجمع أشتات الحقيقة كما يراها كل طرف متسلحا بنصيحة أبيه الحكيم أن التاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين. نحن الأحفاد لسنا اقل شغفا بالحقيقة من جدودنا القدماء, وتدهشنا مثلهم تضارب أقوال شهود زماننا. مبارك الذي وصفه محاميه فريد الديب بأنه بطل السلام ونسر الجو الجريح الرحيم الطيب, نعته المدعون بالحق المدني والنيابة بالقاتل الفاسد خائن الأمانة. سنعود إلي درس نجيب محفوظ لنري كيف ينظر كل طرف للحقيقة من موقعه. كاهن آمون الأكبر عدو اخناتون اللدود اعتبر أن الملك المخلوع ظل غارقا في مستنقع الحماقة, معرضا عن واجباته حتي ضاعت الإمبراطورية. كان كائنا حقيرا لا يليق بعرش ولا يتصور أن يتحدي بعوضه. ومات خائب المسعي مخلفا وراءه زوجة شريرة. تدهشنا كلمات الكاهن الأكبر وهي تلامس أحزاننا الحالية يقول يلزمنا عمل كبير وشاق. خسارتنا في الداخل والخارج اكبر من أن يحيط بها حصر, كيف أتيح لمجنون مشوه أن يفعل بنا ذلك كله تحت سمع وبصر العقلاء. كاهن آخر هو مري رع اخلص أتباع اخناتون يري الحقيقة من موقعه لم أدهش لتمسكه برسالة الحب والسلام عندما تخلي عنه اقرب المقربين. كيف يمكن لمن ينغمس في الحقيقة أن يكترث لمكر الساسة ودهاء العسكريين. يبدو أن مرور آلاف السنين لم يمنع توارد الخواطر بين رع والديب. الأخير قال كلاما مشابها عن موكله في مرافعته لا تحزن بغدر من غدروا بك وأنت تسمع وتري بني وطنك ينقضون عليك وأنت اعزل. يضيف رع اعتلي اخناتون العرش ليخوض أشرس معركة خاضها ملك ولكن في سبيل الحقيقة والحب والسلام وسعادة البشر حفيده الديب له عبارات مشابهة أنت يانسر الجو الجريح وقائد نسور مصر في حرب استرداد الأرض والكرامة, يا من حملت روحك علي كفيك وأنت تقاتل وواجهت الموت بقلب البواسل فنجاك الله لتواصل مسيرة الجهاد. السيدة تي والدة نفرتيتي زوجة المخلوع كانت تحمل في قلبها حبا وحنانا علي زوج ابنتها بما لا يقل عن مشاعر الديب تجاه موكله. في شهادتها تقول عذوبته لا تبرح القلب كان النبل والصدق والحب والرحمة وهي مثل الديب تماما لا تعرف لماذا لم يبادله الناس حبا بحب ورحمة برحمة ولماذا انقضوا عليه كالوحوش يمزقونه ويحرقون ملكه كأنه عدو أثيم. الديب يري أن هذا الجحود أيضا كان قدر مبارك لا تحزن وأنت تري بني وطنك ينقضون عليك. انفض كل من كانوا حولك ولا يخجلون من إظهار الشماتة. أما وزير الرسائل توتو فلديه رأي يخالف ما جادت به قريحة الديب والجدة الطيبة تي معا المخلوع كان واعيا بضعفه ولكنه أوتي من المكر والخبث مالا يتاح إلا لمن أذله ضعفه واحرقه الحقد. قرر من البداية أن يستأثر بالسيادة. تصور انه يستطيع أن يخلق الدنيا علي هواه. وتلاشي سحره لدي أول صدام حقيقي مع الواقع واجتاحه الفساد والتمرد وفر عنه الجبناء. أخيرا لننصت إلي العسكر, ولحسن الحظ والعواقب, فان المتحدث من أجدادنا الفراعنة انه ماي قائد جيش الحدود أذل المارق بشذوذه أعناق الرجال. سكتت طبول الحرب وانكسرت رايات المجد. افقدنا المخبول شرفنا العسكري وجعلنا هزأة للمعتدين, وفريسة سهلة لقطاع الطرق. سر المأساة يكمن في ضعف المارق. كان ضعفه الطعم الذي جذب إليه المنافقون والطامعون واللصوص والفاسدون. أرهقتنا رحلة ماري مون وتناقضات الرواة ومبالغات الديب ولكن لا يجب أن نكون اقل قدرة من كاهن آمون علي أن نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين. المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق