الغش والأمانة موضوعات يقوم ببحثها عادة خبراء في السلوك الإجرامي أو يتناولها علماء الدين، ولكن مؤخرا انتبه خبراء الاقتصاد إلى أهمية دراسة السلوكيات المرتبطة بالأمانة نظرا لفداحة الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد سنويا من جرّاء الغش الذي يمارسه الشخص العادي وليس اللص محترف الإجرام. فإلى جانب فئة اللصوص الذين يدبرون الخطط لسرقاتهم وقد يتسلقوا المواسير أو يكسروا الأبواب والخزائن بالقوة ، يرتكب رجال ونساء يعتبرون أنفسهم أمناء وشرفاء «سرقات صغيرة « ويمارسون الغش، فيقوم أحدهم مثلا «باقتراض» قلم من مكان عمله، أو يضم دعوة عشاء لصديق شخصي ضمن مصروفات لقاءات العمل، أو يستخدم سيارة العمل أو الهاتف الدولي في مكتبه لقضاء مصالح خاصة...إلخ. تلك السرقات الصغيرة التي يقوم بها الموظفون في مختلف المهن تكلف اقتصاد الولاياتالمتحدة خسارة مالية تقدر بستمائة مليار دولار سنويا(600 مليار)، في حين تبلغ تكلفة مجموع كل حوادث السطو والسرقة بالإكراه والنهب التي يرتكبها اللصوص والمجرمون المحترفون في العام الواحد ستة عشر مليار دولار (16 مليار). لهذا السبب قام أستاذ الاقتصاد السلوكى دان آرييلي وزملائه في الولاياتالمتحدة بعدد من الاختبارات العلمية لمعرفة ما الذي يدفع الناس إلى الغش وخيانة الأمانة ؟ ومتى يغشون بنسب أكثر؟ وتحت أي ظروف تنخفض نسبة الغش؟ وقام بنشر استنتاجاته في كتابه «اللامنطقية المتوقعة» (Predictably Irrational ).
اختبار الغش
قام الباحثون بتصميم ورقة أسئلة تحتوي على 50 خمسين مسألة حسابية بسيطة، وطلب من مجموعة من طلبة جامعة هارفارد حل أكبر عدد ممكن من تلك المسائل في مدة زمنية محددة لا تتعدى خمسة عشر دقيقة. وفي نهاية الاختبار يحصل كل طالب على نصف دولار مقابل كل إجابة صحيحة. تلك المجموعة الأولى لم يتح لها أي فرصة للغش، وكان متوسط عدد الإجابات الصحيحة فيها حوالي 33 ثلاث وثلاثين مسألة. ويتم تكرار الاختبار مع مجموعة ثانية لكن مع إضافة إغراء بالغش، ففي نهاية الاختبار تسلم كل طالب ورقة إجابة منفصلة مطبوع عليها الإجابات الصحيحة وطلب منه نقل كل إجاباته النهائية إلى تلك الورقة بجانب الإجابات الصحيحة. فهل ينقل كل طالب إجابته الحقيقية أم يغش الحلول الصحيحة لنيل المزيد من النقود؟ وفي مجموعة ثالثة تم زيادة الإغراء أكثر، حيث طلب من الطلاب أن يمزقوا أوراق الحل ويقوموا بتسليم ورقة الإجابات النهائية فقط، وبالتالي لن يتمكن المختبر من كشف حالات الغش بمقارنة طريقة الحل بالإجابة النهائية. أما في المجموعة الرابعة والأخيرة فقد ترك للطلاب الحبل على الغارب حيث لم يوجد معهم مختبر من الأصل بل وطلب منهم أن يحسبوا لأنفسهم الإجابات الصحيحة ويأخذوا النقود التي يستحقونها مباشرة من صندوق مفتوح. فماذا كانت النتائج التي توصل إليها الباحثون بعد أن كرروا التجربة في خمس جامعات أخرى وبمبالغ مالية متفاوتة؟ كانت النتيجة الأولى هي أن أغلب الطلاب غشوا. أي أن أغلب الناس إذا سنحت لهم الفرصة سوف يغشون. وقد تكون هذه النتيجة متوقعة حسب المنطق الاقتصادي الكلاسيكي الذي يفترض أن قرارات الشخص الاقتصادية تنبع من حسابات المكسب والخسارة بهدف تعظيم منفعته، وبالتالي يكون سبب الغش هو انعدام العقاب أوانخفاضه بالنسبة للمنفعة المتحققة من الغش. ولكن باقي النتائج أكدت أن سلوك الناس لا يحكمه المنطق. فبالرغم من زوال الخسارة المتمثلة في إمكانية الإمساك بهم، وبالرغم من زيادة الإغراء بزيادة المكسب من النقود التي يمكنهم الحصول عليها، قام الغشاشون من طلاب المجموعة الثالثة والمجموعة الرابعة بالغش بنفس القدر الضئيل الذي قام به الغشاشون في المجموعة الثانية، حيث لم يغشوا أكثر من ثلاث إلى أربع مسائل. أي أن زوال خطر انكشاف غشهم وزيادة المكسب المالي من الغش لم يجعلهم يغشون أكثر، فقد كان من الممكن أن يدعي كل واحد منهم أنه حل جميع المسائل ويأخذ نقودا كثيرة من الصندوق ولن يراه أو يحاسبه أحد. فما الذي منعهم ؟ هل هي الأمانة؟ يرى دان آريلي أن أكثر الناس بالفعل تؤمن بأهمية الأمانة و»تحب أن تكون على خلق» كما قال عادل إمام في شخصية سرحان عبد البصير، لأن الإنسان يشعر بالسعادة حين يرى في نفسه الشرف والقيم التى تربى على أنها قيم حميدة . ولكن المشكلة تكمن في أن الإنسان بطبيعته متحيز لذاته ويقوم عادة بخداع نفسه، لذلك فإن جهاز الضمير أو الوعي الذاتي لا ينشط لديه إلا حين يفكر في التعديات الكبيرة المجسمة. فهو لا يتردد كثيرا حين يقوم بأخذ قلم أو كتاب أو بغش مسألتين، ولا يفكر في أثر هذا السلوك المشين على نزاهته وأمانته، بل يخدع نفسه ويختلق لها مختلف التبريرات أن هذا الذي يأخذه بالغش هو من حقه. ولكن المفارقه التي لا تخضع لمنطق هي أن وعيه يتنبه إذا فكر في أخذ صندوق الأقلام كله، وفي الغالب سوف يمنعه ضميره من هذا العمل. ومن هنا المثل الشعبي الذي يستهزئ بصغار السارقين «إن سرقت اسرق جمل».
اختبار الثلاجة
اختبار آخر كشف عن سلوك بشري أكثر غرابة. فقد اندس الباحثون في أحد الدور التي يسكنها طلاب الجامعة، وقاموا بوضع ست علب من المشروبات الغازية في ثلاجة مشتركة، وفي ثلاجة مشتركة ثانية بجناح آخر وضعوا ست أوراق نقدية من فئة الدولار على طبق ظاهر ، وبعد مرور ثلاثة أيام اندسوا مرة أخرى لمعرفة مصير تلك المغريات التي تركت بلا صاحب. كانت النتيجة أن أحدا لم يمسس المال السائب حيث وجدوا الدولارات في مكانها، بينما اختفت علب المشروبات الغازية في ظرف 72 ساعة. تم تكرار التجربة في دور أخرى وكانت النتيجة واحدة في كل مرة. معنى هذا أن الرادع الداخلي الذي يمنع الإنسان الشريف من أن تمتد يداه إلى مال لا يملكه، يرتخي بشكل غير منطقي حين لا تتضمن السرقة اتصالا مباشرا بالنقود، فحينئذ يكون الغش أسهل كثيرا على المرء ويتحرر من كثير من قيوده الأخلاقية. ولذلك نجد أن أغلب صور الغش والفساد والسرقة في العالم يفصلها عن الأوراق النقدية خطوة، فالشركات تغش بعمليات محاسبية، وشركات الأدوية تغش بإرسال الأطباء وزوجاتهم إلى منتجعات سياحية فخمة، بل ووجد أحد الباحثين أن المدير حين يعطي لمساعده مهمة كتابة إيصال بمصروفات خاصة بالعمل يكون أقل أمانة عما يكون حين يسجلها بنفسه. هذا الكلام حين نقرأه أو نسمعه يبدو غير منطقي ولا يمكن أن يتصرف على أساسه سوى الأغبياء أو اللصوص، ولكن الاختبارات اللاحقة التي قام بها دان أرييلي أثبتت أن هذا السلوك المخادع للنفس شائع بدرجة مخيفة. فقد وجد أن نسبة الغش بين الطلاب في الاختبارات الحسابية السابقة ارتفعت لأكثر من الضعف حين تم إعطاء كل طالب تذكرة عن كل إجابة صحيحة بدلا من نقود، وما كان على الطالب بعد ذلك إلا الذهاب بتلك التذاكر لغرفة مجاورة واستبدالها بنقود حقيقية. فالغالبية التي قامت على استحياء بالغش بمتوسط ثلاث مسائل في الاختبارات النقدية السالفة غشت بمتوسط ست مسائل في الاختبارات غير النقدية، بل وكان من بين تلك المجموعة بالذات أكبر عدد من الذين تطرفوا في الغش بادعاء الحل الصحيح لجميع المسائل.
اختبار تنشيط الضمير
الغش لا يمنعه سوى رادع خارجي أو رادع داخلي. والرادع الخارجي يتمثل في القوانين والعقوبات والإشراف والمحاسبة التي يخضع لها الإنسان في بيئته، بينما يتمثل الرادع الداخلي للغش في الضمير والوعي الذاتي. ففي غيبة الرادع الخارجي أو في حالة ضعفه، هل يمكننا فعل فعل شيء للتحكم في الرادع الداخلي لدى الأفراد لكي نخفض من نسبة الغش في المجتمع؟ للإجابة على هذا السؤال قام دان آريلي وزملاؤه بتجربة ثانية أذهلته نتائجها. مرة أخرى تم تصميم اختبار بسيط وتخصيص مبلغ من المال عن كل إجابة صحيحة يقوم بها الطالب. وتم تكرار الاختبار مع ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى حيادية حيث لم تكن لديها هناك أصلا فرصة للغش. أما طلبة المجموعتين الثانية والثالثة فقد تم إغراؤهم بالغش بأن طلب منهم نقل إجاباتهم في ورقة ظهرت فيها الإجابات الصحيحة كما طلب منهم تمزيق أوراق الحل التي تبين كيف توصلوا للإجابات. الجديد في تلك التجربة هو ما سبق الاختبار، حيث دعى الطلاب للقيام باختبار ذاكرة تحريري قبل الشروع في حل المسائل. فطلب من أفراد المجموعة الثانية تذكر أسماء عشر كتب قرأوها في الثانوية بينما طلب من أفراد المجموعة الثالثة تذكر الوصايا العشر. كانت النتيجة أن أغلب أفراد المجموعة الثانية الذين تذكروا أسماء بعض الكتب قاموا بالغش بمقدار ثلاث مسائل في المتوسط كما في اختبارات الغش السابقة، بينما تطابق عدد الإجابات الصحيحة في المجموعة الثالثة مع المجموعة الأولى التي استحالت فيها فرصة الغش. أي أن المجموعة التي طلب منها تذكر الوصايا العشر التزمت الأمانة ولم يحدث فيها غش بالرغم من تواجد نفس الإغراءات. ذهل الباحثون من النتيجة وكرروا التجربة مرة أخرى بجعل أفراد المجموعة الثالثة يوقعون جملة في مستهل ورقة الأسئلة مفادها ان هذا الاختبار يتم في إطار ميثاق شرف الجامعة. فكانت النتيجة أن الطلاب لم يقوموا بالغش أيضاً. ومعنى هذا انهم نجحوا بإجراء بسيط في تنشيط ضمائر الطلاب، أو في تنبيه الوعي الذاتي الذي يسهل على الإنسان خداعه. الطريف في الأمر أن المجموعة التي نجحت في مقاومة إغراء الغش ونقلت إجاباتها بأمانة مطلقة لم يكن فيها فرد واحد قادر على تذكر الوصايا العشر بشكل كامل أو صحيح. كذلك لم يوجد فرق بين الذي نجح في تذكر وصيتين والذي تذكر ثمان منهم. وفي الحالة الثانية لم يكن للجامعة ميثاق شرف من الأصل ومع ذلك التزم الطلاب الأمانة ولم يوجد فرق في مستوى الغش بين الجامعات التي يتلقى طلابها الجدد تدريباً خاصاً حول ميثاق الشرف والجامعات التي لا يوجد لديها ميثاق شرف. وقد استنتج دان أريلي من هذا أنه لا يهم قدر المعرفة الدينية أو طول مدة التدريب على مواثيق الشرف، بل المهم أن يتم تنشيط المرجعية الأخلاقية في نفس لحظة الإغراء. وبناء على ذلك ينصح دان أرييلي المنظمات المهنية المختلفة بمحاولة إيجاد سبل لتنشيط حلف اليمين أو القَسَم المهني الذي يتخذه الطبيب أو المحامي أو السفير في بداية خدمته بحيث تصبح أكثر دورية. كما ينصح شركات التأمين وهيئات تحصيل الضرائب أن تطلب من عملائها التوقيع على تعهد بصحة البيانات في مستهل الإقرار أي قبل الشروع في ملئ الاستمارة لا في ذيلها. ولكن إذا كانت هذه الاستنتاجات صحيحة فبماذا نفسر انتشار الفساد و الغش الذي يستشري بل ويعشش في مجتمعنا على الرغم من تواجد المنبهات الدينية باستمرار في صور متعددة؟ هل منعت البسملة المكتوبة على السبورة الطلاب من الغش؟ هل يردع صوت الآذان بعض الناس وهم على وشك القيام بعمل مخالف للأمانة والشرف؟ قد يقول البعض أن تواجد المنبهات الدينية بكثافة عالية يقلل من فاعلية تأثيرها، حيث يعتادها الناس فتصبح مجرد خلفية للأحداث تماما مثل القهوة التي تتوقف عن إحداث تأثيرها المنبه في من يحتسيها بكثرة. وقد يقول البعض أن لولا تواجد هذه المنبهات الدينية اليومية في مجتمعنا لكانت نسب الغش أكثر ارتفاعا ولقلت الأمانة عما هي عليه .ولكن التفسير الأخطر هو أن يكون الخطاب الديني السائد قد أفرغ الدين من مضمونه الأخلاقي بتركيزه على أداء المناسك الظاهرة دون التفات كاف للقيم الأساسية التي يحتويها. في هذه الحالة ينبه الآذان الموظف إلى موعد الصلاة فيستريح ضميره بمجرد تأديتها ولا يؤرقه حين يعود لمكتبه لتقاضي الرشوة.