يا أهل النفاق والتزلف والمداهنة والملق ومسح الجوخ.. يا صناع الفرعون.. يا هواة وعتاة وغلاة الركوع بين يدى الحاكم الأرضي.. يا من تهتفون بالروح والدم لكل من جلس على الكرسي.. يا عبدة أصنام العجوة.. يا شعراء عكاظ المتبتلين فى الطلعة البهية فى انتظار الصرر الندية.. يا من ترثون بذلاقة اللسان البلد وما عليها.. الراجل زهق.. السيسى قد ملّ وقرف.. الزاهد فى الإطراء لا يبغى فى عمله سوى وجه الله وحده.. الرئيس أصدر تعليماته بألا تزيد كلمة أى مسئوول فى الاحتفالات والمناسبات الرسمية التى تتم فى حضوره على 7 دقائق بشرط خلوها من الدسم والبهريز والمحسنات اللونية ومكسبات الطعم والشقانق والمقانق والألقاب الفوسفورية والرئيس المؤمن والرئيس الخالد وبنات أفكار الرئيس وتنفيذا لتوجيهاته، وتطبيقا لنظرياته غير المسبوقة، وتحقيقا للنهضة التى قادها، وإنجازا للمشروعات العملاقة التى أعطى الإشارة بإنشائها، واستقراء لتلميحاته وإشاراته السديدة الضمنى منها قبل الصريح.. المسموح به فقط: السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية.. فقط لا غير.. والسؤال الآن: طيب يا فندم ونعمل إيه بعد قرار سيادتك السيادى فى تراثنا الخالد من العبودية، ومعلبات المديح والثناء والتفخيم والتقريظ والتأليه الواقفة فى زورنا؟!! كرب كربلاء مدن العراق عزيزة على التاريخ، لها فى الفؤاد منازل التقديس، والآن عندما ينحر أبناؤها وتُدك آثارها وتلوث أرضها أقدام داعش الآثمة القادمة من كل حدب وصوب من أول الأرض لآخر الأرض تقذف بالملتاثين على رءوس الأشقاء الآمنين، فاللعنة على من يتخذ من إسلام السلام واجهة للخراب فتتساقط الحمم فوق النجف مثوى وليد الكعبة وشهيد المحراب أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب.. النجف حضن العتبات المقدسة التى تضم إلى جانب مرقد الإمام عليّ مرقدًا عزيزًا آخر لابنته السيدة خديجة، ومرقد كل من النبى صالح وهود عليهما السلام، ومرقد الصحابى الجليل مسلم بن عقيل بن أبى طالب.. نجف التى يوجد بها أيضاً بيت الإمام عليّ والكثير من قبور الصحابة رضوان الله عنهم إلى جانب كنوز من الآثار منها سور النجف، وقصر الخورنق، ووادى السلام.. ولأن الأسماء لا تطلق على عواهنها عند قدامى العرب، فالنجف فى العربية معناه المنجوف وهو المكان الذى لا يعلوه الماء، ويروى أن النجف كانت فى الأصل جبلا عظيما أشار إليه ابن نوح بقوله: «سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء»، وتهاوى الجبل رملا، وكان البحر الذى حمل السفينة اسمه «ني» فجف من بعد زمان ليُقال «نى جف» ومع التداول الطويل «نجف». و..خوفاً عظيماً على مدينة «سامراء» التى يحوم حولها شياطين تنظيم الخوارج الجدد، وهى التى كانت عاصمة الإمبراطورية العباسية، وفى أصلها ديرًا أقام فيه المتوكل العباس ثلاثة أيام فاستحسن هواءه ليشيّد بجواره مدينته «سُرَّ مَنْ رأي» التى اشتهرت ب«سامراء»، ومن بعده قام ناصر الدولة الحمدانى بتوسيع المدينة وإحاطتها بسور، وفى أيام الدولة العثمانية شيّد أول جسر فى سامراء على نهر دجلة، وتتناثر الدرر التاريخية على أرض سامراء: المئذنة الملّويّة، وقصور: العاشق والمعشوق، والمعتصم، والمختار، والقصر الوزيري، والجعفري، وقصر الجص، والجامع الكبير الذى شيّده المعتصم بالله فى عام 234ه ويضم 44 برجًا و15 مدخلا. وعلى أرض كربلاء يتعرض آلاف الأبناء للكرب وإن كان الاسم القديم معناه «قرب الإله» عند البابلية، وفى الفارسية «كاربالا» أى «العمل الأعلي».. كربلاء بآثارها وأحيائها ونواحيها وأبوابها.. كربلاء 52856 كيلو مترا تحيطها البساتين ويسقيها الفرات.. كربلاء التربة الحسينية المقدسة التى دُفن فيها سيد الشهداء وابن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.. كربلاء بنواحيها: الخيّرات، وناحية الحُرّ التى تحتضن قبر الحسين، وناحية عون مرقد العباس عليه السلام وكثير من قبور الصحابة الشهداء فى سبيل الإسلام الصحيح، وبها مقام المهدى عليه السلام وقصر الأخيضر، ومنطقة كهوف الطار الأثرية.. كربلاء حاضنة السياحة الدينية بعد النجف التى كانت فى زمن الأمان تغص فنادقها بزوار مقدساتها.. و..ليحفظ الله بغداد الكعكة التى تنهش ضراوة الحقد الداعشى أطرافها، ومن قبلهم هاجمها «هولاكو» بجيوش التتار عام 656ه ليعملوا فى أهلها السيف أربعة وثلاثين يوماً حتى بلغ قتلاها أكثر من 800 ألف، وتعود بغداد ويعود العدوان فى ركب «تيمور لنك» الذى مشت جيوشه إليها فوق جبال من رءوس قتلى الشام ارتفعت عن الأرض 10 أذرع.. بغداد التى بلغت ميزانية الدولة فى عهد عضد الدولة فيها 32 مليونا من الدنانير وكانت بيوتها مزينة بالأبنوس والعاج وكان أهلها فى زمن ابن بطوطة عندما زارها عام 727 ه يعشقون الفن والغناء وقد رأى سلطانها الإيلخانى بوسعيد يتنزه فى سفينته بدجلة وعلى يمينه وشماله المئات من قوارب الطرب والغناء فى كل منها أمير بعسكره وطبوله ومزاميره، السلطان الذى ابتيع له فى ثلاثة أيام ورد ب1000 دينار فرشت به مجالسه وطرحت منه كمية كبيرة فى بركة عظيمة بقصره، ماؤها زئبق وفوقها أراجيح حبالها زمبق... بغداد رغد العيش فى زمانها فاق كل حد حتى يُقال إن نساءها كن يبالغن فى الإنفاق على زينتهن لدرجة أن زوجة الخليفة المستضيء كانت تزين نعالها باللآلئ الكبار.. بغداد ما أن بلغها تيمور لنك حتى حاصرها ليأخذها عنوة فى عيد النحر لتسيل دماء البغداديين أنهارا بعدما نحر من أهلها 100 ألف وبنى من رءوسهم كعادته كلما هاجم مدينة فى طريقه الدموى أقواساً للنصر ليرثيها أبى تمام بقوله: لقد أقام على بغداد ناعيها فليبكها لخراب الدهر باكيها و..يوجعنى أن أسمع أنباء العراق فى الصباح كالنباح.. توجعنى الموصل وأربيل والفالوجة والرمادى ونينوى وكركوك وتفاقم الإرهاب فى الأنبار ليبتلع ثلثيها.. يوجعنى كرب كربلاء وظلمات النجف وخوف سامراء التى لم تعد فى خشيتها تسر كل من رأي.. الأميرة آمال وجدتُ فى نظرتها الصارمة أمرًا موجهاً من صاحبة أرفع سلطة وسلطانا فى المنزل.. أمي.. بأن أضع صينية القهوة وأمشى أطلع برّه بعد أن آخذ الباب من ورائي، وذلك لأن هناك ما تحمله قريبتنا القادمة فى زيارة على غير موعد من أمر بالغ الأهمية داخل محيط العائلة.. ولم يمكث السر طويلا فى جب البئر، بل لم يدم أكثر من ساعات فى طى الكتمان بعدما استشعرت ثِقله على الوالدة التى عهدتها لا تستطيع مع الأسرار صبرًا طويلا، فذهبت ألف وأدور وأتمسح وأتحنجل بدعوى التخفيف عن وطأته بمشاركتها فى حمله، فهمست لى به مع الاكتفاء بزغرة ظنت بها الكافية لتكبيل جهاز التوصيل السريع داخل فمي، فما كان منى إلا الهمس بدورى بما قد سمعت لأستاذى مصطفى أمين من اختارنى ولم أزل طالبة جامعية فى السنة الأولى بقسم الصحافة للعمل تحت إشرافه فى أخبار اليوم.. همست لصانع الأخبار والنجوم بأنه سيتم فى القريب العاجل عقد قران حسناء العائلة إلى شخصية عربية على أعلى مستوي.. جميلة الجميلات حازت على إعجاب الأمير فتقدم لخطبتها من بعد مباركة الأسرتين.. فى القاهرة والسعودية.. ولرغبتى العارمة فى نيل إعجابه وكسب ثنائه وتثبيت أقدامى فى صفوف مدرسته بضربات صحفية لها وقعها تبرعت بإحضار صور العروس اليوم قبل الغد معتمدة على رغبة خالة العروس فى التعجيل بنشر الخبر، مع التصريح المستتر منها للمصور الشهير ألبان بتسليمى مجموعة منتقاة من تلك الصور.. وما أن استمعت من مصطفى بك لعبارته التشجيعية go on بمعنى هيا، وإلى الأمام وعلى خيرة الله التى تجعلنا نهد الجبال ونتخفى ونحن بنات الناس فى زى الكمسارية والشحاتة والسجينة والجرسونة والمجنونة.. الخ من أجل معايشة الواقع والكتابة عن تلك الشرائح بمنتهى الصدق والموضوعية، وإن كان قد ثار علينا ثورة عارمة بعدما اصطحبتنا الصحفية الكبيرة الراحلة فتحية بهيج كمجموعة تمضى فترة التدريب الجامعى كى ننزل بهدومنا فى ماء نافورة ميدان الأوبرا لتكتب تحقيقها المصور فى آخر ساعة عن شدة ارتفاع موجة الحر التى تسود لدرجة دفعت ببنات العاصمة لتبريد أجسادهن فى النوافير، يومها ارتفع صوته الغاضب متوعدا: سامعين يا بنت انت وهى وهى أنا عايز أشوف فى أخبار اليوم صحفيات كويسات مش سابحات فاتنات حتى لممت أشيائى مزمعة التوجه الفورى لاستوديو ألبان بشارع قصر النيل ففوجئت بالزميلة الغالية الكاتبة القدرية الصحفية مها عبدالفتاح وقد لحقتنى تبعا للأوامر فى مهمة ولى الأمر لتصحبنى إلى وجهتي، فكتمت الغصّة لأبدى ترحيباً صاخباً لا مجال له.. وعدنا أنا ومها باللقطات النادرة.. صافيناز نور عروس الأمير فهد بن عبدالعزيز فى أكثر من صورة نشرت أخبار اليوم إحداها مع الصباح التالى على صدر صفحتها الأولى كانت فيها جالسة وضفيرتها الخلابة تصل إلى نهاية ظهرها... وفوجئت بمصطفى بك يوجه الشكر للعزيزة مها مثنياً على جهودها منصتاً لدقائق المغامرة على لسانها، بينما أدور بنظراتى المحبطة بينهما ولسان حالى يقول: وأنا.. أنا.. أنا يا مصطفى بك؟؟! وتصلنى الدعوة الذهبية التى أحتفظ بها للآن يعلوها اسميّ صافيناز وفهد متعانقين بحكم صلة القرابة لحفل الزفاف الأسطورى فى سراى والد العروس بمصر الجديدة.. دخلت مبكرة للصالون الأمامى شبه الشاغر، حيث لم يكن الفرح قد استوعب بعد ضيوفه العديدين لأجد فى مقعد جانبى وثير شقراء حسناء سمهرية القوام ماسية الإكسسوار تحيط أبهتها الواضحة دوائر من فراء المنك، وتعجبت من أنها كانت تبتسم ليّ بود، وكأنها كانت فى انتظار طلعتي، وكأننا كنا على موعد شوق سابق، وكأنها تعرفنى من زمن وأنا التى لم أزل طالبة بسنة أولى جامعة ودوائرى الاجتماعية محدودة ومن المدرج لأخبار اليوم لماما وبابا فى البيت، ووجدتنى كالمسيرة متوجهة للجلوس إلى جوارها متسائلة عن اسمها فأجابتنى بدماثة تواضع طبقة الكريم شانتيه: الأميرة آمال.. ولما كان الإطار من حولى مدججاً بالثراء والأبهة وقراريط السوليتير فقد استملحت أن تكون رفيقتى فى السهرة صاحبة لقب أميرة، حيث كان الأخوال والخالات من بعدما عُرف فى الأسرة دورى كقريبة صحفية تم عن طريقها نشر الخبر العائلى بصداه العالمى يسّرون لى فى كل مكان أتوجه إليه بصحبة الأميرة آمال على البوفيه وبجوار كوشة العروسين صافيناز بالطرحة والتاج والأمير فهد الفارس الممشوق بالبدلة اللامعة، وفى الشرفة الواسعة بالجديد من أخبار العروسين: هدية أسطول المرسيدس البيضاء.. خطوبة باكينام شقيقة العروس عن قريب.. شهر العسل فى ربوع أوروبا.. ودائما ما كانت الأميرة آمال تصحبنى لحمام الحريم لإصلاح الماكياج ونثر البودرة على الوجه درءا للمعان البشرة وتتركنى فى الصالون الصغير المصاحب أمام مرآة لست فى ولع للنظر إليها، بينما تغلق عليها الباب الداخلى وتطيل من مكوثها الصامت من خلفه، وأخيرا نعود للالتحام بالمدعوين وتلقى المزيد من أخبار العروسين التى تستعيدها الأميرة مِنى بالتفصيل الممل.. ولم أتوقف طويلا أمام ظاهرة اهتمام الجرسون الأسمر بموقعنا بالذات وحمله إلينا بشغف بالغ صوانى الشربات والشيكولاتة والقهوة مرارًا وتكرارًا لتعطيه الأميرة آمال شيئا من داخل حقيبة السهرة فكبرت فى عينى لظنى أنها منحة جود وكرم من أميرة رفيعة المقام لجرسون شقيان من أجل لقمة العيش.. ومع خيوط الفجر عدت من الزفاف الأسطورى متخمة مرهقة لم أعمل الواجب بعد، لكن فى بطنى بطيخة صيفى فقد كنت الصحفية الوحيدة المطلعة بحكم أواصر القرابة على جميع ما جري، ولسوف أجلس لكتابة تفاصيل السبق الصحفى وأجوده فى النهار على أقل الأقل من مهلى لأحمله وافياً شافياً لأستاذى مصطفى أمين قبل آذان الظهر للنشر فى الصباح التالي.. لكننى فوجئت ويالهول المفاجأة.. كل ما جرى بالأمس منشورا على صفحات الأهرام.. أتارى الأميرة آمال ليست سوى الزميلة الصحفية آمال بكير التى لم تبذل جهدا كبيرا فى تقمص دور الأميرة لإطلالتها الفارهة التى ليس لها مثيل وسط طالبات أولى صحافة بجواربهن القصيرة وأحذيتهن الزحافى من حولي، وإن كان الزميل محمد صالح رئيس مهرجان السينما فيما بعد قد عانى كثيرا من حمل الكاسات والصوانى ليدور بها بين المدعوين ليتلقى متابعة دقيقة بدقيقة لحفل الزفاف على الطبيعة مكتوبة على ورق التواليت الذى كانت تكتب عليه الأميرة آمال وتدسه فى حقيبتها من وراء الباب ليتلقاه مرسال من وراء مرسال بعربة سريعة تقف على الناصية ليلقفه الزميل الراحل جلال الجويلى الرابض فى غرفة العمليات بصالة التحرير بالأهرام، هذا بينما كنت أطالع وجهى فى المرآة.. و..بالتالى لم يقل لى أستاذى مصطفى أمين كلمة التشجيع التى كنت أنشدها «برافو» فى أول طلعة صحفية لي!! إتيكيت إبن المقفع لا تزهدن فى كتب الأولين وتقصر نظرتك على أبواب القرن الواحد والاثنين والثلاثة والخامسة والعشرين.. لا تصمْ كتب التراث بالجمود والتخلف وتحدد المعرفة فى الكمبيوتر والشات والتويتر والآى باد الخ.. لا تتطلع فقط لنصائح مستوردة من دكتور جون وبروفيسور ماكس والعالم هوشى منه فى جامعة بكين موارياً تحت التراب المعلم ابن سينا والبيرونى والرازى وابن الهيثم وابن المقفع مؤدب الأجيال.. عبدالله بن المقفع صاحب كتاب كليلة ودمنة المتوفى عام 142ه.. الذى وجدت له فى السلوك والإتيكيت ما يعد دستورا للحياة وحتى تبقى على ظهر البسيطة مخلوقات عقلها فى راسها وليس فى حذائها.. نصائح غالية تركها المفكر العربى للتعامل داخل القصور وفى الأكواخ والشارع.. للسلطان والوزير والغفير.. ضمّها مؤلفه الضخم «الأدب الكبير» الذى يطلب فيه أولا من السلطان: - إذا ابتليت بالسلطان فتعوذ بالعلماء، وإياك أن يكون من شأنك حب المدح وأن يعرف الناس ذلك منك فيكون بابا يقتحمونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منك لها، واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه.. ولا يأخذن فى روعك أنك إذا استشرت أهل الدين والمروءة أن يظهر ذلك للناس منك الحاجة إلى رأى غيرك، فإنك لا تريد الرأى الآخر للافتخار به ولكن ما تريده للانتفاع به، وأفضل الذكر عنك أن يقال: لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوى الرأي.. وإنك إن تلتمس رضا الجميع تلتمس المحال، فعليك بالتماس رضا الأخيار وذوى العقل... ولا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزمن نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعا.. واحرص على أن تكون عالما بأمور العاملين معك، فإن المسيء يخاف من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك، وليعرف من حولك أنك لا تُعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك دوام لخوف الخائف ورجاء الراجي.. ويعود ابن المقفع ليطلب ممن فى صحبة السلطان مراعاة الكثير فى أوجه التعامل: - إذا ابتليت بصحبة السلطان فعليك المواظبة فى غير معاتبة، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة ولا تهاونا. - إذا رأيت السلطان يجعلك أخاً فاجعله أبا، ثم إن زادك زده، وإذا نزلت من السلطان منزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن له من الدعاء فى كل كلمة إلا أن تكلمه على رءوس الناس فلا تتوانى عما يعظمه ويوقره. - إذا كلمك الوالى فاصغ إلى كلامه، ولا تشغل طرفك عنه بنظر إلى غيره، ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعهدها بجهدك. - لا تشكونّ إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطلعت عليه من رأى تكرهه له، فإنك تزيد على أن تفطنهم لهواه أو تقربهم منه وتغريهم بتزيين ذلك والميل عليك معه. ومن نصائح ابن المقفع أستاذ الاتيكيت الأول: - ابذل لصديقك دمك ومالك، وللعامة بشرك وحنانك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على أى أحد. - إذا رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك، فإنما هو أحد رجلين: إن كان من أهل الثقة فانفع لك قُربه من عدوك لشر يكفه عنك، أو لعورة يسترها منك، أو غيبة يطلّع عليها لك.. وإن كان رجلا بلا ثقة فيه من الأصل فبأى حق تقطعه عن الناس وتكلفه ألا يصاحب إلا من تهوى أنت؟! - استحِ من أن تخبر صاحبك أنك عالم وأنه جاهل مصرحاً أو معرضا، وإن استطلت تفاخرت على المماثلين لك فلا تتوقع منهم الصفاء، وإن أنست فى نفسك ميزة أو فضلا فتحرج أن تذكره أو تبديه، واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه المتميز يتركز لك فى قلوب الناس من العيب أكثر مما يتركز من الفضل، وإذا رأيت رجلا يحدث حديثا قد علمته، أو يخبر خبرا قد سمعته، فاترك له السبق ولا تشاركه فيه، ولا تعقب عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك علمته، فإن فى ذلك خفة وسوء أدب وسخفاً. - البس للناس لباسين ليس للعاقل بدّ منهما، ولا عيش ولا مروءة إلا بهما: لباس انقباض وجمود تلبسه للعامة فلا يلقونك إلا متحفظا متحرزا مستعدا، ولباس انبساط واستئناس تلبسه للخاصة الثقات من أصدقائك فتلقاهم بذات صدرك وتفضى إليهم بمكنون حديثك وتضع عنك مؤونة الحذر والتحفظ فيما بينك وبينهم، وهؤلاء لا تدخل إليهم هذا المدخل إلا بعد الاختبار والتكشف والثقة بصدق النصيحة ووفاء العهد. - لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عُذرا، ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يُظفرك بحاجتك، ولا تحدثن إلا فيمن يرى حديثك مغنماً.. ولذا إذا اعتذر إليك معتذر، فتلقه بوجه مشرق ولسان طلق إلا أن يكون ممن فى قطيعته غنيمة. - احترس من سورة الغضب، وسورة الحقد، وسورة الجهل.. واعلم أنك لا تصيب الغلبة إلا بالاجتهاد والفضل، وأن قلة الاستعداد لمحاربة الطبائع السيئة هو الاستسلام لها، وليس أحد من الناس إلا وفيه من كل طبيعة سوء ميل، وإنما التفاضل بين الناس فى مغالبة سوء الطباع. ويمضى ابن المقفع فى سرد نصائحه فى فن التعامل و«الإتيكيت»: - حبب إلى نفسك العلم حتى تلزمه وتألفه، ويكون لهوك وسلوتك.. - لن ينفعك أن تُخبر عدوك وحاسدك أنك عدو له، فتنذره بنفسك وتحذره لتحمله على التسلح لك وتوقد ناره عليك، واعلم أنه أعظم لأمنك أن يرى عدوك أنك لا تتخذه عدوا فإن فى ذلك أن تأخذه على غرّة وهو السبيل لك إلى القدرة عليه. - تعلم حُسن الاستماع كما تتعلم حُسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضى حديثه، وقلة التلفت والتسرع إلى الجواب، والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والإنصات بالعينين والوعى لما يقول وكأن قضيته قضيتك. - إذا كنت فى قوم فلا تعمم الشتم أو الذم فإنك لا تدرى لعلك تتناول بعض جلسائك مخطئا فلا تأمن انتقامهم، أو متعمدا فتُنسب إلى أهل السفه، ولا تذم اسماً لعله يكون من بعض أسماء الأهل والحرُم، وكل ذلك يجرح القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد.. - إذا كنت فى قوم ليسوا فصحاء، فدع التطاول عليهم بالبلاغة والفصاحة.. ويؤكد ابن المقفع على الأخذ بتلك الأخلاق إن استطعت ولن تستطيع ولكن الأخذ بالقليل خير من ترك الجميع.. واعلم.. إن خير طبقات أهل الدنيا طبقة نقوم بوصفها لك: أن ترتفع عن الوضيع، ولا تتواضع عن الرفيع!! لمزيد من مقالات سناء البيسى