قل لى.. كيف تقرأ نصا كالنص التالى:"وقّع النهر فى دفتر الحضور/ ناسيا حفنة من الطمى/ تحت مقعد الباص/ متأبطا ذراع فاتنة"؟ إنك- بعد قراءة النص- ستقفز إلى ذهنك على الفور انطباعات ثلاثة؛ ستقول لنفسك أولا: هذه السطور هى" شعر" وليست نثرا.. ثم إنك ستقول ثانيا: إن الشاعر محمد حربى شبّه النهر بإنسان، ثم حذف المشبّه به( الإنسان) مكتفيا بخصيصة من خصائصة، أو لازمة من لوازمه، وهى تأبطه ذراع حبيبته.. وستهمس لنفسك بالتأكيد: آه..تلك هى الاستعارة المكنية التى سبق لنا جميعا أن درسناها فى "العربى" فى الثانوية العامة. وستقول لنفسك ثالثا: إن النهر( الإنسان) نسى وهو يغادر الباص أصله( الطمى) تحت المقعد.. حيث أننا كلنا خلقنا الخالق عز وجل من طين.. إلا أننا ننسى! هكذا يجب أن يقرأ الشعر. واعلم أنك، وأنت فى معيّة الشعر، لا يجب أن تبحث عن المعانى المجردة سهلة الفهم والابتلاع والهضم.. لا. إن للشعر حلاوة ليس كمثلها حلاوة، بشرط أن تتعب قليلا. هى حلاوة نابعة من تتبع الصور التى صوّرها الشاعر فى قصيدته، وحلاوة أخرى فى اصطياد تلك الصور.. و كلما نجحت فى اصطياد صورة هائمة هنا أو هناك، فستشعر برعشة عجيبة ممتعة فى عقلك ووجدانك. انصت معى للشاعر وهو يكمل قصيدته. يقول:" يرحل النهر سريعا/ إلى خيمة الملح/ ناسيا أن يوقّع فى دفتر الانصراف/ أو أن يحمل ظله" ماذا فهمت؟ هل الشاعر أراد مثلا أن يقول لك إنه موظف زوّغ من شغله متناسيا التوقيع فى دفتر الحضور والانصراف ليلقى الحبيبة؟ أم تراه قصد إلى معنى أعمق قليلا وهو أن دفتر الانصراف هو الموت؟ إن النهر( الذى هو ذلك الموظف نفسه، وهو الإنسان، وهو الشاعر) تناسى الموت فى غمرة فرحته بالحبيبة؟ أبدا.. لم يقصد الشاعر محمد حربى شيئا من هذا أبدا.. بل إن فى بطنه معان أخرى تماما.. ألا يقولون" المعنى فى بطن الشاعر؟" على فكرة، الشاعر ليس مطلوبا منه أن يشرح لك نفسه.. بل يتركك أنت تنعم بما تريد أن تتخيله. لكن.. ما حكاية" يرحل النهر سريعا إلى خيمة الملح"؟ هل أراد الشاعر تذكيرنا- وتذكير نفسه- بخواء الحياة وعبثيتها فصارت كالملح الذى مهما أكلت منه لا تشبع؟ أم تراه أراد أن يحذرنا من النهاية المرتقبة عندما يلتهم البحر( والبحر كله ملح!) الأنهار.. أى الحياة؟ أم أراد حربى بالملح ذلك الخواء والعدمية التى تخيم على أرواحنا وروحه حتى مع وجود الحبيبة بجانبه؟ أبدا لم يقصد الشاعر شيئا من ذلك أبدا.. وتركها لذكائك! طيب.. ماذا يعنى( أو أن يحمل ظله)؟ هل يمكن للإنسان أن يحمل ظله؟ وهل الظل حقيبة تحمل؟ لا يا أخى.. إنه قد يكون قصد أن الإنسان لا قيمة له هذه الأيام.. فلا تأخذكم النفخة الكذابة والعنجهية الفارغة.. فأنتم- يا من نهايتكم التهام الملح لكم- لا ظل لكم.. أنتم عدم.. أنتم لاشىء! هذه مجرد محاولة لفهم إحدى قصائد محمد حربى. جرّب إذن مع نفسك، ولاعبها لعبة" اصطياد المعانى والصور".. وبالمرة إليك جزء من قصيدة أخرى له.. حاول أن تفك أسرارها. يقول الشاعر:" قل إن الرمل الذى منه تفرون/ سيلاقيكم: نفطا وغواية/ قحطا وشرائع/ إعط ما للبحر من ملح/ وما للصحراء من رمل/ أما الطمى فيدهب غناء/ نحو جذوة الناس والماء/ أعد لنا طيننا أيها البحر/ أعد لنا ما تبقى أيها الرمل!
الكتاب: ديوان شعر" والرمل إذا غوى.. رقائم طينية" الشاعر: محمد حربى الناشر: دار التسنيم للنشر والتوزيع الصفحات: 134 تاريخ النشر: 2014