عندما استخدم الرئيس الأمريكى أخيرا مصطلح "الحرب" بمفهومه التقليدى، فى سبتمبر الماضى لوصف الحملة الأمريكية ضد تهديد داعش المتزايد فى العراق وسوريا، أبدى كثير من الخبراء والمحللين تخوفهم، كون الإدارة الأمريكية ومعها حلفاؤها، لم تلتقط بعد حرب ما بعد الحداثة الأكثر تطورا وشراسة التى يعتمد عليها التنظيم الإرهابى فى كسب العقول والقلوب، إنها حرب الدعاية الإلكترونية، التى أثبت داعش حتى الآن أنه يتقنها وقادر على استغلالها لتجنيد المزيد من المؤيدين يوميا. لقد فطن عدة خبراء ومحللين أخيرا إلى أن أكبر مصدر لنجاح داعش حتى الآن، لا يكمن بأى حال بقدراتها العسكرية، أو بتكتيكاتها الإستراتيجية على أرض المعارك كما تتصور الإدارة الأمريكية وحلفاؤها. ولكنها تعتمد على التباهى الفج من قبل التنظيم بجرائمه عبر شبكات التواصل الاجتماعى. هذا الجهد المنظم والمكرس لتصوير التنظيم على أنه صاحب قدرات فوق إمكانات "البشر" جعلته لا يكتسب فقط سمعة التنظيم الذى لا يقهر أمام الجيوش التقليدية، ولكن منحته أيضا القدرة على كسب عقول وقلوب فئات من شباب الشرق والغرب، تصور انه ينضم إلى الفئة الغالبة فى صراع عالمى وأيديولوجى، نجح التنظيم بامتياز فى تكريس صور الرعب. ووفقا لمحلل البيانات الأمريكى الشهير جى.إم. بيرجر المسئول عن موقع intelwire.com ، فقد نجح تنظيم داعش منذ بداية توغله فى العراق مع بداية صيف العام الحالى، على استخدام تطبيقات على أجهزة الهواتف المحمولة التى تعمل بنظام" أندرويد" أطلق عليه اسم "فجر الأخبار السارة" وهو يقدم أخبار قطع الرؤوس وإعدام الجنود فى العراق وسوريا. وقد تمكن هذا التطبيق من مضاعفة نشر آلاف التغريدات الخاصة بالتنظيم عبر "تويتر" دون أن يتمكن الموقع من ملاحقتها كرسائل مزعجة، وهكذا نجح التنظيم ليس فقط فى عمليات التجنيد، ولكن أيضا فى جمع التمويلات عبر العالم.
ووفقا لخبير الأمن الإلكترونى بجامعة التو الفنلندية، يارنو ليمنيل، فقد أصبحت لقطات الفيديو الخاصة بقطع الرؤوس والتصفيات الجسدية التى يرتكبها مقاتلو داعش، عنصر جذب غير مفهوم لمستخدمى الإنترنت. فتلك المقاطع التى تتحاشى نشرها الشبكات الإخبارية، يتتبعها ملايين المستخدمين بشغف حول العالم عبر الفضاء الإلكترونى، وهو ما دفع المحلل الأمريكى البارز ديفيد بروكس فى مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز"، ليصف ذلك بأنه نقطة تحول غامضة فى أعراف وقواعد السلوك البشرى، وأن يصف ما تقوم به داعش ومريدوها عبر الشبكة الإلكترونية بأنه اللعب ضد قواعد الحضارة الإنسانية.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية، وفى إطار حربها الإلكترونية ضد الإرهاب، قد أنشأت فريق توعية رقميا تابعا للوزارة فى عام 2011 تحت اسم مركز الاتصالات الإستراتيجية لمكافحة الإرهاب، بميزانية لا تتعدى ستة ملايين دولار فقط، ونحو عشرين موظفا، هم قوام مجموعة المحللين الرقميين، الذين من المفترض أن يواجهوا الآلة الدعائية الشيطانية لمثل هذه التنظيمات الإرهابية، وهم يتقنون اللغة العربية والأردية والإنجليزية والصومالية، ومهمتهم متابعة شبكة الإنترنت للبحث عن المواد ذات الطابع التكفيرى المتطرف. ويرى فرناندز أن تلك التنظيمات التكفيرية قد تمكنت بشكل ناجح منذ بداية الألفية من استغلال الوسائل الدعائية فى جذب المتطرفين، وقد تجلى هذا بوضوح مع بث قناة "الجزيرة" القطرية للمقاطع الحصرية لأسامة بن لادن وهو يقنع المزيد من المريدين باتباعه، وهو ما يعتقد كلينت واتس زميل معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكية وخبير مكافحة الإرهاب، أنه كان له التأثير الأكبر فى ظهور تنظيم القاعدة فى العراق على يد أبو مصعب الزرقاوى وغيره من التنظيمات. ويرى واتس أن تنظيم القاعدة وقتها نجح فى استخدام لقطات التفجير والعبوات الناسفة على أرض المعارك ضد الجنود الأمريكيين، بدلا من أساليب الوعظ التقليدية.
وعلى رماد تنظيم القاعدة، خرج تنظيم داعش، وقد تعلم درس الدعاية جيدا وقام بتطويره على نحو غير مسبوق، وكان عام 2013 هو عام "تويتر" بالنسبة الى داعش بامتياز، حتى تم إنشاء أكثر من 60 ألف حساب تابع للتنظيم منهم 27 ألف فقط بعد اغتيال جيمس فولى الصحفى الأمريكى فى أغسطس الماضي, ويعترف مدير المركز الأمريكى لمكافحة الإرهاب, ماثيو اولسن, أن قيادات داعش قد أدركت هروب النشاط التكفيرى الرقمى من المنتديات التى كانت تحميها كلمات مرور سرية, إلى منابر التواصل الاجتماعى المفتوحة بلا حدود, وتزامن مع هذا اعتمادها على مركز دعاية شديد التطور هو مركز الحياة الإعلامي, المتخصص فى نشر مقاطع فيديو تمجد الجهاد على شبكة الانترنت, وبجانبه مكتب إعلامى صغير يعرف باسم الفرقان، لا يعرف مواقع وجودهما الفعلى حتى الآن، وكذلك هوية من يعملون به، وذكر ثرى سرينيفاسان المسئول الرقمى السابق لجامعة كولومبيا فى مقال له أنه قال لوزير الخارجية الأمريكي، جون كيرى مع بدء الضربات الجوية ضد داعش، "لقد نجحت داعش فى استغلال وسائل التواصل الاجتماعى لنشر الشر على مستوى غير مسبوق كليا"، أما كاثرين زيمرمان، المحللة الأمريكية البارزة فى معهد أميركان انتربرايز، فقد أكدت أن الفيلم الوثائقى الخاص بالتنظيم بعنوان "لهيب الحرب" والذى لم تتجاوز مدته 52 ثانية، قدم للشباب المتحمس صورا ذهنية تفوق صور أى انتصارات عسكرية، فقد أظهر داعش بصورة التنظيم الثرى الذى لا يعرف التردد، المنظم، سريع الحركة، وشديد النجاح، وعلى عكس ما هو منطقى فإن المشاهد المروعة من عمليات الدمار والإعدام التى تمارسها داعش هى تحديدا ما يستخدمه التنظيم وبنجاح هائل لتجنيد الشباب الغربيين، خاصة تلك المقاطع الخاصة بصور للدمار المتوقع فى الأيام الأخيرة لنهاية الحياة وقيام الساعة، وهو ما يؤثر على أعداد هائلة من الشباب الذى يظن انه سينضم لتلك المعركة النهائية الحاسمة، حيث سينتصر الخير على الشر.
فى المقابل يرى محللو البيانات الرقمية الخاصة بمكافحة الإرهاب، أن على الولاياتالمتحدة بعد إعلانها رسميا الحرب ضد داعش، أن تعترف مبدئيا بهزيمتها فى مطاردة هذه الأنشطة الإرهابية الرقمية، التى تمكنت من تجنيد أكثر من100 أمريكى للقتال فى صفوف داعش، وان تقر بأنها لم تتقن بعد لغة "دهاء الدعاية الإلكترونية" -كما يؤكد الخبراء وان على أوباما الاعتراف بأنه مقابل شن الحرب التقليدية، فإنه يخسر حربا موازية قوامها الكلمات والصور والوسائط الرقمية المتعددة، يستخدمها بمهارة تنظيم الإرهاب.