خلال خمسين يوما من العدوان الوحشى قتل جيش القتلة الإسرائيلى وقد أعتمدت التسمية الأكثر دقة لما يسمى زورا جيش الدفاع كما نصح بها الكاتب اللبنانى إلياس خورى أخيرا،2139 فلسطينيا، أغلبيتهم العظمى من المدنيين، وفقا لبيانات الأممالمتحدة، بينهم 490 طفلا، وسقط أكثر من 11 ألف جريح، منهم 3000 طفل، و20 ألف منزل سويت بالأرض أو دمرت بحيث لم تعد صالحة للسكن، وعشرات المدارس وخطوط المياه والكهرباء تم تدميرها، كما دمرت محطة الكهرباء الوحيدة فى غزة، ليترك الدمار والتدمير أكثر من نصف مليون مواطن بلا مأوي. وتقدر تكلفة إعادة بناء ما تم تدميره، وفقا للسلطة الفلسطينية، ب 7.8 مليار دولار، منها 2.5 مليار لإعادة بناء المنازل المهدمة، علما بأن الناتج المحلى الإجمالى للقطاع لعام 2011 قدر بنحو 2.43 مليار دولار، فى المقابل، قتل فى أعنف مقاومة واجهها عدوان إسرائيلى على غزة 64 عسكريا و6 مدنيين، وتقدر إسرائيل تكلفة العدوان بمليارى ونصف مليار دولار،هى تكلفة آلة العدوان والتدمير. أما عن فتح المعابر بين القطاع المحاصر وإسرائيل، وهو الذى يعد تنازلا إسرائيليا، فحجم الحركة من خلال معبر أيرز (بيت حانون)، لم يتجاوز منذ اتفاق الهدنة وحتى يومنا هذا 400 فرد فى اليوم، وفقا للنيويورك تايمز، فى حين يسمح المعبر بحركة 450 ألفا يوميا، ويضيف تقرير التايمز أن أكثر المسموح لهم بالعبور هم من المرضى من ذوى الحالات الحرجة. أما عن المطار والموانيء، وكانت من المطالبات الأساسية لكل من السلطة الفلسطينية وحماس، فالفيتو الإسرائيلى مازال قائما لم يتزحزح، علما بأن الاقتصاد الغزاوى قد صار تابعا تبعية شبه كاملة للاقتصاد الإسرائيلي. هذا وقد تستغرق إعادة بناء ما دمره العدوان الأخير 20 عاما، إذا بقيت القيود على حركة الواردات إلى غزة على حالها، وفقا لتقرير للجارديان البريطانية. ويبلغ السيل الزبى حين نعلم أن إسرائيل تصر على أن تكون هى المصدر الوحيد لواردات إعادة الإعمار من مواد ومعدات، وبأسعار أعلى من السوق، وذلك وفقا لتقرير يورو أكتيف، الموقع الإخبارى الأهم المعنى بتغطية الاتحاد الأوروبى، تحت عنوان «مساعدات إعمار غزة زصنع فى إسرائيل»، أى أن إسرائيل تجعل من تدمير غزة وقتل أبنائها بالالاف عملية تجارية أيضا، لتصب المعونات الأوروبية وغيرها الموجهة لإعمار ما هدمه العدوان فى غزة فى جيوب الشركات الإسرائيلية. وحماس تحتفل ب «الانتصار» ليس فى الأمر ما يدعو للتندر أو السخرية، ولكن للأسى العميق، أن يحتفل الشعب الفلسطينى فى غزة بإيقاف المذبحة لهو أمر طبيعى يختلج له وجدان أى إنسان لم ينحط به الغرض إلى مستوى التوحش، ولا نقول الحيوان، فالحيوانات أكثر رحمة من هؤلاء، وأن يفتخر شعب بخروجه من آتون المذبحة صامدا، مقاوما ومصرا على مواصلة المقاومة فهو بدوره أمر جدير بأسمى آيات التقدير والإعجاب، ولكن أن يقوم التنظيم الحاكم فى غزة ورجاله وحلفاؤه خارجها بإعلان المأساة نصرا مظفرا، فلعل أقل ما يمكن أن يقال فى ذلك أننا كعرب صرنا فى حاجة ماسة لإعادة تعريف ما نقصد ب «النصر» خاصة قد عاصرنا صدام حسين يعلن ما أحدثه التحالف الدولى فى حرب الخليج الأولى من دمار فى قواته وبلده نصرا، على أساس أن بقاءه وحزبه فى الحكم هو النصر كله. وفى الواقع يتفق المحللون الجادون، عربا وعجما، على أن تصفية حماس لم تكن هدفا إسرائيليا فى عدوانها الأخير، وجله انتهاز فرصة وضع إقليمى بدا مواتيا تماما للمزيد من كسر إرادة المقاومة والصمود لدى الشعب الفلسطينى فى كل مكان وليس فى غزة وحدها عبر السلاح الصهيونى المفضل منذ دير ياسين، وهو قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين وتدمير وسائل عيشهم، وهو ما يطلق عليه القادة الإسرائيليون إعطاء العرب دروسا فى الواقعية ويبقى من الواجب أن نكرر تأكيد الضرورة الحاسمة للتمييز بين إرادة المقاومة عند الشعوب وبين أشكال تحققها فى ظل ظروف معينة وفى ظل قيادة سياسية وأيديولوجية بعينها. الطغاة فى كل مكان وعبر التاريخ عاجزون عن إدراك حقيقة أن إرادة المقاومة لا يصنعها أحد، وهم دوما باحثون عن مؤامرة ما، ومتأمرون ما، وراء كل تمرد للمضطهدين على القهر والظلم. غير أن إرادة المقاومة والتمرد على القهر ما هى غير تحقق لطبيعتنا البشرية نفسها، ولأفضل وأسمى ما فى جوهرنا الإنساني، وأدعى أنه لا توجد ثورة شعبية فى العالم يمكن لأى من كان، فردا أو حزبا أو حركة سياسية، أن يدعى صنعها، قد تبدو مفارقة، ولكن الثوار لا يصنعون الثورات، ولكن فى وسعهم فى أحيان إرشادها للنصر، وفى أحيان أخرى السير بها فى طريق التراجع والهزيمة. وهناك بطبيعة الحال، وعبر التاريخ أيضا، قوافل كذابون الزفة وأولئك لا يرون فيما يتعرض له التمرد على القهر والثورة عليه من تراجعات وهزائم وكر وفر، وصعود وهبوط، غير دلائل مجددة على عقيدتهم الثابتة، وهى حكمة الخضوع والخنوع والمذلة وحماقة المقاومة والتمرد، على طريقة: «هو كان إيه اللى وداه/وداهة هناك»؟. فى كتابه ذائع الصيت «التاريخ الشعبى للولايات المتحدة» يقول المؤرخ الأمريكى هوارد زين: «ذاكرة الشعوب المضطهدة هى الشئ الوحيد الذى يستحيل انتزاعه منها، ولأناس كهؤلاء، وبمثل هذه الذكريات، تبقى الثورة دوما مجرد بوصة واحدة تحت السطح». كان لابد من التوقف عند العدوان على غزة وتداعياته، ونستأنف نقاشنا المنقطع للمأزق الاستراتيجى للثورة الفلسطينية فى مقالات مقبلة، حيث السؤال: ليس المقاومة أو الاستسلام، ولكن كيف نقاوم؟. لمزيد من مقالات هانى شكرالله