فى اللغة العامية المصرية يشير الناس إلى الخبز باعتباره العيش. التسمية البليغة تعبر بوضوح عن أهمية الخبز للمواطن المصرى للبقاء على قيد الحياة، و تعكس حقيقة أن الشعب المصرى فقير، يعتمد فى غذائه بشكل أساسى على الخبز وما قد يتيسر من الغموس. نصف السعرات الحرارية التى يحصل عليها المواطن المصرى من مصادر الغذاء المختلفة تأتى من الخبز. عندما لوحت لجنة سياسات جمال مبارك بتحويل دعم الخبز إلى دعم نقدى محسوب على أساس ثلاثة أرغفة لكل مواطن يوميا، اعترضنا بملء الفم، قلنا إن الحسبة خاطئة، وتفترض أن رغيفا يكفى فى الوجبة. قلنا إن الرغيف يكفى إذا كان جانبه لحم وخضار وربما قطعة مكرونة بالبشاميل وهو أمر يتجاوز أحلام ملايين المصريين. المنظومة الجديدة للخبز المدعم عادت بنا إلى الأرغفة الثلاثة. طبعا أعلن وزير التموين ولا يزال يعلن أن كل مواطن حائز لبطاقة تموينية أو كارت ذكى للخبز، له الحق فى خمسة أرغفة يوميا. لكن الوزير لا يعلن أنه تم تخفيض وزن الرغيف مرتين، فى البداية تم تخفيض الوزن من 130 جراما إلى 90 جراما، ثم تم التخفيض مرة ثانية بعد ارتفاع أسعار السولار ليتراوح بين 70 و 80 جراما. وزن الخبز الفعلى المقرر لكل فرد عاد بنا إلى أرغفة لجنة السياسات الثلاثة. الحكومة قررت أن هذا هو الحد الأقصى لدعم الخبز الذى توفره للمواطن، وإذا لم يكفه فعليه استكمال شراء ما يلزمه بسعر السوق. المشكلة هنا أن البيانات الرسمية تقول إن أكثر من 26% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وتصفهم بأنهم اولئك الذين يضطرون لتخفيض احتياجاتهم الاساسية من الغذاء للإنفاق على حاجات ضرورية أخرى. بالعربى الفصيح أكثر من ربع سكان مصر لايمكنهم الوفاء باحتياجاتهم الأساسية بما فيها الغذاء. المفروض أن استحقاق هذه الفئة للخبز المدعم أمر لا لبس فيه، فلمثل أولئك خلق الدعم. خبرنى بالله عليك كيف تقرر لمواطن تحت خط الفقر حدا أقصى فعليا بمعدل رغيف واحد فى الوجبة. وإذا كان لا يمكنه الوفاء باحتياجاته الأساسية فى ظل رغيف بخمسة قروش فكيف يفعل إذا كان سعر الرغيف فى السوق صار 50 قرشا؟ وماذا تفعل أسرة لديها أبناء فى سن النمو والشباب يأكل الواحد منهم أكثر من رغيف فى الوجبة؟ الحكومة وضعت حدا أقصى 30 رغيفا للأسرة. مؤخرا، ومع تصاعد الشكوى والاحتجاجات فى بعض قرى الجيزة، رفعت الحد الأقصى إلى أربعين رغيفا بواقع ثمانية أفراد فى الأسرة. الحكومة تضع نصب عينها أمرا واحدا هو تخفيض الإنفاق على الدعم لتخفيض عجز الموازنة العامة وتعلن أن المنظومة الجديدة للخبز تمنع تهريب وبيع الدقيق المدعم وبالتالى تمنع الهدر فى الأموال المخصصة للدعم، كما تضمن للمواطن جودة رغيف الخبز. الواقع يقول إن سرقة أموال الدعم مازالت مستمرة، وأن الرغيف كان سيئا فأصبح سيئا وصغير الحجم. البطاقات الذكية التى أعلنت الحكومة أنها أداتها لمنع السرقة صارت هى نفسها أداة السرقة. الموضوع أنه عند تمرير الكارت فى ماكينة الصرف يتم تسجيل قيمة الخبز المنصرف وإضافتها لحظيا لحساب صاحب المخبز بالبنك. خبراء البنك الدولى الذين أشادوا بالنظام الجديد فاتهم أننا فى مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية وخاصة لدى الفقراء الذين يشترون الخبز المدعم، وأنهم لا يعرفون ماهى القيمة التى يسجلها صاحب المخبز عند تمرير الكارت فى الماكينة ولا يحصلون على إيصال يوضح تلك القيمة. صار هناك سماسرة لتجميع البطاقات الذكية وتقديمها للمخابز لكى يتم تمريرها بالماكينات وترجمتها إلى نقود تضاف لحساب صاحب المخبز، مقابل حصول السمسار على مبالغ شهرية. هذه الآلية تفسر شكوى العديد من المواطنين من احتفاظ بقالى التموين ببطاقاتهم والمماطلة فى ردها. ما لا يسرق عبر الكروت، يتم سرقته عبر تخفيض الوزن الذى لا تلقى إليه وزارة التموين بالا. بل إن الوزارة نفسها شجعت عليه وفتحت له بابا عندما سمحت لصاحب المخبز بأن يبيع مايفيض من حصته بسعر 35 قرشا للرغيف، كما سمحت بما يعرف بالكارت الذهبى الذى يوفر حصة يتم التصرف فيها بمعرفة مفتش التموين، للمواطنين الذين لا يملكون بطاقات خبز وللمغتربين.. كأننا نتحدث عن عالم من الملائكة.. وكأننا لم نعان عقودا من الفساد المقنن. فى بعض الأحياء التى تتعدد بها المخابز تحسنت نوعية الرغيف رغم تقلص وزنه. فى أطراف المدن والامتدادات العشوائية، حيث الفقراء المستهدفون بالدعم، مازال الرغيف يتسم بالرداءة، والأفران لا توجد إلا على مسافات بعيدة تتطلب ركوب مواصلات وتحمل تكلفة إضافية للحصول على الخبز. البديل هو الشراء من السوق بسعر خمسين قرشا للرغيف. هناك شكوى حقيقية من عدم وجود مخابز فى العديد من الأماكن الفقيرة، وضعف قدرات عدد كبير من المخابز. هناك شكوى حقيقة للمغتربين، هناك شكوى حقيقية للأسر التى لديها أبناء فى سن النمو والشباب. المطلوب تنقية قوائم حائزى بطاقات التموين من غير المستحقين، ورفع حصة الخبز المقررة للفقراء والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة. المطلوب إعادة إحياء المخابز الآلية و تطويرها لانتاج العيش البلدى، المطلوب أن تقوم الحكومة بشراء الخبز من الأفران بالمواصفات التى تحددها وتقوم ببيعه لحائزى البطاقات من خلال المجمعات الاستهلاكية والمنافذ الحكومية. المطلوب حل مشكلة المغتربين وإغلاق باب الفساد المقنن. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى