في مقال تحت عنوان مصر وأمريكا.. مفترق طرق تم نشره منذ نحو أربعة أسابيع كنا أول من إنتقد تلويح الولاياتالمتحدةالأمريكية بسيف المعونات لمصر في ردها المتسرع علي ما قامت به الحكومة المصرية من حملة مشروعة لتفقد نشاط منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مصر, وتتلقي أموالا من الخارج. قمنا بتحليل الموقف منذ بداية التحول في أهداف المعونة الإقتصادية لمصر في فترة التسعينيات, والتي خرجت عن دعم الإقتصاد المصري والقطاعين العام والخاص, وبرامج الإستيراد السلعي, إلي دعم نشاط المجتمع المدني فيما عرف بنشرالديمقراطية من حيث عمليات التدريب ونقل التجارب وغيرها من أمور البحث. وهو ما يعني أن هذا التوجه في أهداف المعونة الأمريكية لم يكن جديدا, ولكنه تطور مع مرور الأيام, ومع التغير في هيكل المعونة الإقتصادية من حيث الحجم ونوعية المشروعات التي تمولها, بعد رفض الجانب الأمريكي لفكرة ضم ما بقي من معونة إقتصادية إلي المعونات العسكرية أسوة بما تمت الموافقة عليه مع إسرائيل, شريك مصر في عملية السلام. وعرضنا تطور أهداف المعونات الإقتصادية الأمريكية لكل من مصر وإسرائيل وباقي دول العالم, مع ما عرف بالحرب علي الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر, حيث أرجعت الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه الهجمات علي برجيها ومناطق استراتيجية أخري بها إلي غيبة الديمقراطية عن كثير من أنظمة دول العالم الثالث, وهو ما أولته بعنايتها من خلال قوتها الناعمة المتمثلة في أموال المعونات الخارجية التي ذهبت لتغيير الأفكار والتدريب وإعادة بناء الشخصية للشعوب وحثها علي المشاركة السياسية, ومن خلال قوتها العسكرية بالتدخل والتغيير القسري للأنظمة لفرض نموذجها الديمقراطي كما حدث في العراق وأفغانستان. ومن الواضح أنه خلال العقود التالية للحرب الباردة عجزت بنوك الفكر الأمريكية عن ملاحقة التغير الذي حدث في جينات الشعوب خاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأيضا المتغيرات السياسية والأيدولوجية التي طرأت, وبزوغ قوي جديدة ولاعبون جدد علي الساحة متمثلة في عودة النفوذ السياسي الروسي, وزيادة النفود الإقتصادي الصيني, والتقارب الفكري والعقائدي والإقتصادي التركي, والغزل الإيراني, وتم ترجمة كل ذلك في شكل إتفاقيات تجارية وإستثمارية جديدة بين دول المنطقة العربية وبين هذه القوي البازغة, كل حسب ثقله وتوجهاته السياسية. في ذات الوقت حققت هذه القوي تفاهمات قوية علي الأرض مع قوي وطنية بدأت في العمل والمنافسة علي الساحة السياسية سواء كانت قوي سياسية ليبرالية أو سياسية ذات مرجعية دينية. وتزامن كل ذلك مع تغيرات أيدلوجية وفكرية لشعوب الربيع العربي وفي مقدمتها مصر الحليف الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدةالامريكية بالمنطقة وهو ما يجعلنا نتفهم أسباب عجز الولاياتالمتحدة عن التوصل لوسيلة إحتواء للأزمة الطارئة بين القاهرةوواشنطن بما ينذر بإمكانية تحولها إلي مشكلة سياسية فيما يتعلق بملف قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني, ووجود منظمات تعمل في مصر منذ سنوات دون إطار قانوني منظم لها, إضافة لتورط شخصيات أمريكية تم إحتجازها ومنعها من السفر من بينهم إبن وزير النقل الأمريكي راي لحود, والذي ربما يكون في وجوده بين المحتجزين سببا أخر في إشعال غضبة عدد من أعضاء الكونجرس هددوا باستخدام المعونات كوسيلة ضغط. حذرت في مقالي السابق من صدام وشيك بين معالجة أمريكية للمشكلة تكرر أخطاء الماضي وتلوح بسيف المعونة, وبين سياج منيع إسمه الكرامة المصرية, وهو ما أثبتته بقوة ردود الفعل الغاضبة علي مدي الأسابيع الماضية من جانب القوي الوطنية علي الساحة المصرية لتأخذ الأزمة بين الجانبين صبغة النعرة الوطنية, ويصبح الإستغناء عن المعونات الأمريكية معركة كرامة يؤيدها الشعب المصري بكل أطيافه. وبالرغم من تأكيدات الرئيس الأمريكي باراك أوباما و مطالبته للكونجرس بالحفاظ علي مستوي المعونات الإقتصادية والعسكرية لمصر في الموازنة الأمريكيةالجديدة كما هو دون تغيير كدليل علي رغبة الإدارة الأمريكية في تلافي الأخطاء التي وقعت في معالجة الأزمة من الجانب الأمريكي, إلا إن هذا التحرك جاء علي ما يبدو متأخرا وفي سياق مناقض لما صرحت به وزيرة الخارجية الأمريكة التي إستمرت في مخاطبة مصر بذات اللهجة الفوقية التي إعتادتها في ظل الأنظمة السابقة بالمنطقة, وهو ما أدي لتفاقم المشكلة وخروج المبادرات الوطنية التي إستلهمت مشاعر وعواطف المصريين بمختلف أطيافهم السياسية وفي مقدمتهم الأغلبية الصامته, للمطالبة بالإستغناء عن المعونة الأمريكية ورفض سياسة الإملاءات من واشنطن. كل هذا والمعالجات الأمريكية للمسألة تتخبط بين إلقاء اللوم علي وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا وعلي الحكومة المصرية, وبين محاولة البحث عن سبيل لتفاهمات تحفظ دفء العلاقات بين مصر وأمريكا وتحافظ علي المصالح الأمريكية بالمنطقة دون إراقة ماء الوجه. الحكومة المصرية وجهات التحقيق مستمرة في أداء عملها من حيث جمع الأدلة وتحديد الإتهامات وسبر أغوار القضية وأدوار المتهمين فيها من الداخل والخارج, كما إستمرت من جهة أخري الكثير من القوي الوطنية في عملية شحذ الهمم ضد ما أسمته بسياسات التدخل الأجنبي وكسر الإرادة.. أيضا بدأت قوي كثيرة علي الساحة الدولية, مناوءة للولايات المتحدة في طرح نفسها لمساعدة مصر إقتصاديا, وإشتد الشعور بالكرامة لحد التلويح بإعادة النظر في إتفاقية كامب ديفيد باعتبار أن المساعدات مرتبطة بهذه الإتفاقية, ووقف المساعدات يعني إعادة النظر في الإتفاق ككل؟ الموقف خطير وهو ما يستلزم منا وقفة جادة قبل أن ننزلق لمزيد من التصعيد غير المبرر خاصة وأن الطرف الأقوي وهو مصر مستمر في بحث القضية مؤكدا علي مبدأ السيادة ورافضا أي مساس بهذه السيادة التي يحميها القانون الدولي. لابد وأن تكون هناك منطقة وسط تلتقي عندها مصالح الطرفين, فالولاياتالمتحدةالامريكية لا تعني لمصر معونة فقط, ولكن هناك علاقات تجارية, وإستثمارات مشتركة, وحليف أوربي لأمريكا يستأثر بالنسبة الأكبر من التجارة الخارجية المصرية, وإستثمارات أوربية قوية في مصر داعمة للإقتصاد وتتيح فرص عمل كثيرة, وصوت نافذ للولايات المتحدة وأوربا في المحافل الدولية قاطبة بدءا بالأمم المتحدة ومجلس الامن, ومجموعة الثمانية, وإنتهاءا بصندوق النقد والبنك الدوليين. من سيحدد تلك المنطقة الوسطي التي تحل الأزمة وتحفظ حقوق مصر وسيادتها وكرامتها ولا تدخلنا في متاهة سياسية ؟ الوقت ليس مناسبا لنقض إتفاقية السلام مع إسرائيل وجر مصر لمواجهات عسكرية قد تحقق هدف التقسيم أو تعجل به. والحل من وجهة نظر العديد من العقلاء يتمثل في تحديد التهم بالنسبة للأطراف الأمريكية المتورطة وتسفيرهم لبلادهم لتواصل تحقيقاتها بشأنهم, وفي ذات الوقت غلق جميع مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل دون ترخيص أو دون إطار قانوني ينظم أعمالها, ومواصلة التحقيق, ومحاكمة الأطراف المصرية المتورطة في محاكمات مدنية أمام القضاء المصري. وبعد إنقشاع هذه الأزمة لابد لمجلس الشعب من إعادة صياغة القوانين المنظمة لعمل مؤسسات المجتمع المدني بهدف تشجيع المؤسسات الوطنية التي تحقق أهدافا إجتماعية لصالح الوطن, وتنقية المناخ من مؤسسات تمارس أدوارا هدامة في المجتمع وتنفذ أجندات خارجية. نحتاج إلي إصلاح لهذا التشريع يفصل بين الدور المجتمعي المطلوب من منظمات المجتمع المدني, والأدوار السياسية التي يجب أن يقتصر دورها علي الأحزاب خاصة مع مناخ الحرية الكاملة بعد الثورة التي تسمح لأي فصيل سياسي بتكوين حزب. هذا هو وقت نزع فتيل الأزمة والحفاظ علي مصالح مصر, وتفويت الفرصة علي المتربصين بنا والراغبين في قطف الثمار وتنفيذ مخططات تقسيم البلاد. هذا هو وقت إلقاء الحبل للطرف الأمريكي الذي يبحث عن سبيل للحفاظ علي مصر كحليف وصديق وذلك بعد أن نتأكد من فهمه أن الغطرسة لن تفيد, وأن مصر تغيرت وعليهم أن يغيروا بدورهم سياساتهم الخارجية وأفكارهم تجاه مصر, ودول المنطقة ككل.