الزائر فى أوروبا هذا الصيف والمتجول فى شوارعها ومواصلاتها يلاحظ المجلات وقراءها مهتمين بالحدث الأكبر منذ مائة عام: قيام الحرب العالمية الأولى. مع تركيزنا نحن المصريين حاليا بشئوننا المعيشية اليومية، فليس لدينا وقت لما يبدو بعيدا فى الزمان والمكان، وحتى لا يخصنا وهذا خطأ، بل من أكبر الأخطاء ليس تاريخيا فقط، ولكن عمليا يكفى أن نذكر أن تكوين حزب الوفد لا يمكن تفسيره بدون اللجوء إلى هذه الأيام البعيدة منذ مائة عامة، بل إننا لا يمكن أن نتفهم قيام أول ثورة شعبية مصرية ثورة 1919 وزعامات تاريخية مثل سعد زغلول وزملائه دون الكلام عن هذه الحرب العالمية الأولى وتأثيراتها، فما ندرسه فى كتب التاريخ حتى فى المدرسة الإعدادية هو أن معظم المصريين أخذوا معاهدة فرساى التى وقعت نهاية الحرب، وخاصة مبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون فى أهمية استقلال الشعوب مأخذ الجد، ولكن عندما قام سعد وزملاؤه بتطبيق هذه المبادئ والحديث مع بقية العالم فوجئوا ببطش السلطات الاستعمارية البريطانية، والنفاق العالمى وازدواجية المعايير،وأدى هذا إلى تجاهل آسيا ثم الثورة الشعبية التى أعادتهم إلى البلاد. فى الحقيقة، وبعد مائة عام، لايزال النفاق، وإزدواج المعايير العالمى موجودا معنا حتى الآن، ويشكل هذه المنطقة وطنيا وإقليميا أى داخل الدولة المصرية، وفى المنطقة العربية بأسرها، بل إنى أقول إنه لا يمكن فهم ما يدور بين حماس وإسرائيل دون فهم جذورها فى الحرب العالمية الأولى، ألم تشهد هذه الحرب إصدار وعد بلفور وزير الخارجية البريطانى فى نوفمبر 1916 والذى بموجبه أعطى الحق ليهود العالم فى إنشاء دولة لهم فى فلسطين دون أدنى اهتمام بمصير الجماعات الفلسطينية الموجودة على هذه الأرض؟ كان تعريف عبدالناصر لهذه الوعود أو الأزمة وتأثيراتها الكارثية سليما وواضحا: لقد أعطى من لا يملك لمن يستحق فقد كان بإمكان وزير الخارجية البريطانى أن يهب وعدا بأرض فى إسكتلندا أو إيرلندا أو حتى لندن، ولكن ليس له أى حق فى أن يتصرف فى الأرض الفلسطينية. فى الحقيقة وبعد مائة عام أقول إن هذه الحرب شكلت ما نحن عليه الآن فى المنطقة العربية بأسرها، وحتى فى تركيا. فى البداية ظهرت هذه الحرب التى سميت بعد ذلك بالحرب الكبرى كحدث أوروبى محلى: باغتيال أحد أمراء الامبراطورية النمساوية الهنجارية، وبسرعة فائقة، امتد فتيل هذا الاغتيال ليشعل أوروبا، وحتى العالم، بما فيه القوتان الأعظم بعد ذلك: أمريكاوروسيا، ولكن لماذا جاءت هذه الحرب إلى منطقتنا؟ بخلاف بريطانياوفرنسا الاوروبيتين، لماذا دخلت تركيا أو الإمبراطورية العثمانية حينئذ هذه الحرب؟ كما هو معروف كانت الإمبراطورية العثمانية تسمى آنذاك رجل العالم المريض: منهكة، وحتى مفككة داخليا وخارجيا، حيث فى الداخل تتمركز قوة معارضة جماعة «الاتراك الجدد» الثائرين على جمود وتأخر الإدارة والمجتمع والمنادين بالتجديد عن طريق الثورة، وتغيير نظام الإدارة والحكم، وخارجيا كانت الإمبراطورية، حيث تتوسع فرنسا إلى العراق والمشرق العربى، حيث تتوسع انجلترا رأت الإمبراطورية دخول هذه الحرب إلى جانب ألمانيا فرصتها لمقاومة التوسع من جانب بريطانياوفرنسا، وحتى روسيا فى المنطقة العربية من ناحية أخرى رأت ألمانيا فى انضمام العثمانيين إلى جانبها فرصة تعبئة جماهير المسلمين فى الثورة على بريطانياوفرنسا أى استخدام نوع من «الجهاد» ضد هؤلاء المسيحيين أو حتى «الكفار» نعرف الآن ما حدث، وكان التلويح بمبدأ الاستقلال وأحاييل رجل المخابرات البريطانى لورانس المعروف باسم لورانس العرب ما هو إلا وسيلة لنزع الإمبراطورية العثمانية والقضاء عليها، ثم بالفعل استخدام واستغلال الشعوب العربية نحو الاستقلال لإحلال السيطرة الأوروبية محل السيطرة العثمانية، أى إبدال استعمار باستعمار آخر، قد رأى زعماء العرب كل هذا بوضوح عندما قامت الثورة البولشفية الشهيرة فى روسيا فى سنة 1917 وقام تروتسكى بنشر المبادئ السرية لاتفاق سايكس بيكو بتاريخ 16 مايو 1916 بين كل من إنجلتراوفرنسا اللذين كانا يجاهدان أن هدفهما ضد الامبراطورية العثمانية ما هو إلا تخليص العرب من براثينها، وتحقيق استقلال هذه الشعوب. كما يقول مؤرخ اكسفورد النابغ، يوجين روجان الذى قضى جزءا من دراسته الثانوية فى حى المعادي، وتركت هذه الحرب الكبرى آثارا دائمة فى منطقتنا العربية حتى الآن، بالطبع هناك مشكلة إسرائيل، ولكن أيضا لم يتم تفكيك العلاقة بين الإسلام والسياسة حتى مع نهاية الامبراطورية العثمانية، كما أن مشكلة الأقليات فى المنطقة العربية لاتزال موجودة استمرارا لسياسة «فرق تسد» بل إن النظام اللبنانى نفسه، وتقسيم السلطة دينيا طبقا لما أرادته فرنسا، لايزال يسيطر على هذا البلد من أزمة أو حرب أهلية إلى أخرى. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني