تراث كل أمة هو رصيدها الدائم وحق لكل الأجيال ولقد أسفرت حضارتنا القديمة وكذا نهضتنا الحديثة عن إرث تراثى هائل متعدد ومتنوع طبيعى بنيوى وحضارى تاريخى وعلمى وفني. وقد ارتفعت الصيحات وتزايدت الصرخات هذه الايام لحماية هذا الإرث التراثى وبادر أهل العلم والثقافة والخبرة بدق ناقوس الخطر الداهم على بقايا التراث العلمى لحمايته من الاندثار. وانتبهت الدولة فأنشئت ولاول مرة وزارة للاثار والتراث، تبدأ عملها فى ظل ظروف صعبة تواجهها مصر، وفى توجه جديد من أجل دعم الاهتمام بالتراث مع اثار مصر العظيمة، ومن هنا نجد لزاما علينا ان ننتهز هذه الفرصة السانحة ونلفت فيها الانتباه لتاريخ العلوم والتكنولوجيا والدور الذى يمكن أن يلعبه فى تخطى مصر عقبات القرن الحادى والعشرين بثقة وتؤدة. يتصور الكثير ان دور مصر الرائد يقف عند التاريخ الفرعونى فحسب، ويتوه عنهم أنها بحكم تكوينها مكن ان نحمى منجزات الاقدمين العلمية وستظل كذلك، فحينما ظهرت فى مرحلة متنامية وراقية فى زمن قديم انبهرت بها الشعوب المجاورة وامتدت عناصرها الى بابل وآشور وتشبعت بمؤثراتها حضارة كريت واليونان، وفى العصر العربى الاسلامى كانت مصر الاسلامية خلية حضارية مضطرمة فى قلب العالم الاسلامي، فارتبطت بجميع أجزائه وبعالمها الخارجى مما زاد فى عملية الاخصاب الحضارى ولم تتحول مصر نافورة الحضارة (قول جمال حمدان) الى مجرد بالوعة للحضارة الحديثة ولكن لشموخها ورفعة شأنها أصبحت البوتقة الثمينة التى صهرتها وكانت هى المعمل الحضارى الذى تجرى فيه العمليات الحضارية المختلفة، واليوم وفى هذا العالم المتلاطم الموجات يوصف العلم بأنه معرفة بدون ذاكرة مما سيؤدى الى تشويه مستمر لملامح الحضارة المعاصرة، ومن أجل أن نخطو نحو جعل العلم معرفة بذاكرة واعية فان الدور الذى يمكن ان يلعبه تاريخ العلوم والتكنولوجيا على مستوى العالم عموما وفى مصر على وجه الخصوص سيساعد على خلق ثقافة علمية أصيلة وبالتالى يمكن هذا من رد الاعتبار لتاريخ العلم فى مصر.والان نبادر بالسؤال هل الاهتمام بتاريخ العلوم هو رد اعتبار للعلم؟ أو انه تسلية فى برج عاجى؟ ولماذا ننادى اليوم بأهمية وجود وانتشار للفهم العميق للماضى العلمي؟هل يمكن لأمة أن يكون لها موطأ قدم بين مختلف الحضارات الإنسانية دون أن يكون لديها وعى كامل بتراثها؟وأخيرا كيف يمكن ان نحمى تراثنا العلمى من الاندثار؟ ان مقتضيات الاجابة عن هذه الأسئلة، وهى مستويات عدة، تتطلب معرفة كاملة للمستوى الفعال للعلم، كذلك فالعلماء لايضعون أعمالهم العلمية فى سياق اجتماعى للافتقاد الى المنظور التاريخى لهذه الأعمال، كما ان اختفاء الروابط مع الماضى الحى وهو أمر ليس مقصورا على المجتمع العلمى فحسب بل هو عام، ولكنه يؤدى فى نهاية المطاف الى تشويه مستمر لملامح الحضارة المعاصرة، إن دراسة تاريخ العلم يفيد فى الوقوف على العوامل الموضوعية التى هيأت كل هذا النتاج والإبداع العلميين واللذين تحققا على مر العصور وعلى الأسباب التى أدت إلى اضمحلال هذا الإبداع من جهة أخرى فى مناطق بعينها، كل ذلك من أجل تهيئة تلك العوامل مرة أخرى والعمل على استعادة التمسك بزمام البحث العلمى من جديد، وبالتالى مواجهة الضعف والوهن العلمى الذى تعيشه الأمة اليوم.....وللاسف الشديد، إن الحادث لتراثنا هو تغييب كامل لتراث العلوم التطبيقية فى مواجهة العلوم الإنسانية من منطلق عدم إدراك للدور الحقيقى لهذه العلوم فى تقدم البشرية، وكذلك عدم توافر باحثين عليه و مؤسسات ترعاهم، وهنا يبرز سؤال مهم حول جدوى إحياء التراث العلمى ؟ إن الجدوى من إحيائه تتمثل فى : إثبات الدور المصرى فى تقدم الحضارة الإنسانية، بث روح حب العلم فى نفوس الأطفال والطلاب من خلال التربية المتحفية و مقاومة الإنهزام النفسى أمام التقدم التقنى القادم سواء من الغرب أو الشرق، إعادة توظيف تقنيات هذا التراث بصورة ملائمة لعصرنا، تنمية دراسات تاريخ المؤسسات العلمية والبحثية وهياكلها فى مصر( تاريخ الجامعة المصرية، تاريخ الأكاديمية، تاريخ هيئة الطاقة الذرية، تاريخ مصلحة الكيمياء، تاريخ العلماء المنسيين) وحتى يكون التاريخ مفيدا بالفعل فلابد ان يكون نقديا.. ونأتى لأمر آخر وهو كيف يمكن أن ننقل المعرفة الى أكبر عدد من المستمعين؟فاذا كان تليفزيون الدولة اليوم هو الأداة المثلى لهذا الأمر فما هى التغطية التى يمكن ان يقدمها بالنسبة لتاريخ العلوم، او حتى العلم المعاصر.. للاسف مرة أخرى بالرغم من أن تليفزيون الدولة يملك العديد من القنوات المتخصصة تبث ارسالها من خلال القمر المصرى نايل سات ومنها قناتان للتعليم والبحث العلمي، إلا أن البرامج العلمية ليس لها نصيب فى الاهتمام وعندما يتم تقديم فكرة لبرنامج علمى يطلب منك تدبير دعم من خلال اعلانات مدفوعة !!فلو تم التخطيط بشكل جيد وبفكر واضح فى الحصول على نتائج متميزة يمكنها أن تساعد فى تقديم برامج وأفلام متخصصة عن تاريخ العلوم والتكنولوجيا من وجهة نظر صحيحية وبدون مبالغة. وهنا أحكى تجربة شخصية حيث اقوم بتدريس مادة إختيارية عن تاريخ العلوم كمتطلب جامعة، فالطلاب الذين يسجلون فى هذا المقرر عندهم شغف كبير لمعرفة تاريخ الكيمياء او الفيزياء او الرياضيات بطريقة مختلفة ليست كمثل دراسة التاريخ مثلا، ولكن من خلال افلام وكليبات حقيقية تم انتاجها فى قنوات فضائية عربية او اجنبية مما كان يثير شغفهم للمعرفة وكانوا يتبارون فى الحصول على احدث الكليبات التى تتحدث عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة كذلك الحضارة الاسلامية ومراحل النهضة التى مرت بها مصر،ى ولم تكن المحاضرات تتعلق بالتراث من جانب واحد ولكن مناقشة حرة يتم فها تبادل الاراء، واضيف ان هناك مركز لدراسات التراث العلمى تابع لجامعة القاهرة يحاول ان يجمع تراث العلوم وتاريخ العلماء فى مصر وبخاصة الذين لم يتم القاء الضوء على انجازاتهم. أخيرا اختم هذه المقالة بأن تاريخ العلم هو حجر الأساس للبناء التعليمى وهو حافز على تنمية الميل الى البحث العلمى والثقافة العلمية والاستزادة من مفاهيم العلم المختلفة ويمكن من خلاله رد الاعتبار لتاريخ العلوم وكذلك حماية التراث العلمى فى مصر من الاندثار.