لايقوى كثيرون فى مصر من جماعات السياسة والمال على إجراء مراجعات لمواقفهم، ومن ثم لايحملون أنفسهم المسئولية عما وصلنا إليه من أوضاع فى الثلاثين عاما العجاف التى مرت بها مصر تحت حكم حسنى مبارك، خاصة فى أعوامه الأخيرة، وتحت حكم جماعة الإخوان الإرهابية، ولكن بيننا من يبعد عن نفسه شبهة التورط فى مساندة أو تأييد هذا أو ذاك دون شجاعة حقيقية فى الاعتراف بالخطأ رغم أن شجاعة الاعتراف فى المجتمعات الساعية إلى غد أفضل من الفضائل التى تستوجب الترحيب والتقدير، وهى بداية حقيقية نحو بناء مجتمع يقوم على المصارحة والمكاشفة والشفافية، ويشارك فيه الجميع فى عمليات البناء. لو نظرنا إلى سلوك القيادة السياسية، نجد الرئيس عبدالفتاح السيسى واضحا فى خطابه السياسى وفى توضيح عمق الأزمة الاقتصادية التى خلفتها سنوات الفساد والإهمال للعدالة الاجتماعية التى تحولت إلى شعار أجوف على مدى أربعة عقود، ترددها أفواه الوزراء والحكومات المتعاقبة لتسكين الجراح ومعاناة الفقراء والمعوزين دون أن تلمس يوما أرض الواقع. جاء عبد الفتاح السيسى مخاطبا المصريين بلغة جديدة لا تعتمد فقط على طرح المشكلات وتوضيح خطورة المضى فى طريق مسدود فى ظل الوضع القديم، ولكن فى ظل وعى كامل بأن الكل شركاء فى المسئولية، وأن الوقت قد حان لكى نتشارك جميعا فى عناء الحلول التى تتطلب ثمنا، ربما يكون باهظا ومكلفا ولكنه ضرورة اليوم قبل الغد حتى لا نسقط فى هوة لامجال للخروج منها لو تكاسلنا أو تراخينا. البعض منا ينصت ويحاول أن يمد يد العون سواء بتقديم مساهمات مادية أو بطرح أفكار فى شتى مناحى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبيننا أيضا من يستمرون فى سيناريوهات إشاعة الإحباط فى أوساط الرأى العام والإصرار على ارتداء تلك النظارة القاتمة التى لا ترى إلا كل ما هو سلبى ولا ينطقون إلا ما يثير شكوك وريبة الناس فى السياسات الحالية وفى المنهج الإصلاحى السريع الوتيرة الذى ينتهجه الرئيس السيسى وحكومة المهندس إبراهيم محلب وهو منهج لم نعتد عليه وما نألف وتيرته فى السنوات العجاف السابقة، وبيننا أيضا نفر من المصريين تدعمهم قوى خارجية تريد تدمير كل مكتسبات ثورة الشعب فى 30 يونيو. فى ظل المشهد الماثل أمامنا، يؤكد الرئيس يوما بعد يوم انحيازه الصريح لقضية العدالة الاجتماعية التى يدرك أن توقيتها قد حان، وأن الإصلاحات الجذرية هى الخيار الوحيد الأمثل فى تلك المرحلة الصعبة, فأطلق مشروع قناة السويس الجديدة ومشروع تنمية منطقة القناة من أجل أن تتحول إلى مركز تجارى واقتصادى مهم على المستوى العالمى فى تلك البقعة المركزية على خريطة العالم المؤهلة له قبل أكثر من مائة عام ولكنها لعنة الجغرافيا والصراعات فى الشرق الأوسط التى حالت دون تحقيق حلم عزيز انتظرناه بصبر وشغف حتى جاءت اللحظة الفارقة. فى هذه اللحظة الفارقة، يتضح لنا أن الفعل الرئاسى ليس كافيا وحده لإنجاز الحلم العظيم ولكنه يعطى بارقة أمل فى بناء منظومة متكاملة للإصلاح تعتمد على خلق إجماع وطنى يساند التحولات الكبرى ولم تحدث مثل تلك التحولات فى الأمم المتقدمة من دون حالة مشاركة وطنية تناقض محاولة إعادة انتاج الماضى واستمرار سياساته التى ثار الشعب عليها فى 25 يناير كما تناقض أيضا حالة بث اليأس فى النفوس أو حالة نكران المسئوليهم عن أوضاع كارثية أدت إلى ضياع فرص لا نهائية لوضع مصر على عتبات مستقبل أفضل.... دعا الرئيس رجال الأعمال إلى تحمل مسئوليتهم فى بناء الصروح الجديدة للاقتصاد المصرى عبر صندوق تحيا مصر وعدد فى أكثر من مقابلة ولقاء مع المستثمرين والشخصيات الإعلامية والعامة أن تكلفة المشروعات الطموحة تحتاج إلى أياد كثيرة من أبناء الوطن المؤمنين بدورهم فى التنمية.... وفى كلمته أثناء تدشين مشروع قناة السويس الجديدة ضرب مثالا بتكلفة مشروعات الطرق التى تحتاج وحدها إلى 32 مليار جنيه مصرى وقال إن القادرين من أهل مصر هم الأولى بتلك المساهمات ولكننا نرى اليوم إحجاما أو تلكؤاً وتقاعسا عن القيام بدور فى دعم الصندوق وتوجهات الدولة الجديدة رغم كل التأكيدات التى تأتى من السلطة بأن عهد التأميم أو فرض الحراسات أو مصادرة الأموال قد انتهى فى مصر إلى غير رجعة. كان الأجدر برجال الأعمال أن يبرهنوا على سلامة النية والقصد والبعد عن الحسابات الضيقة التى مازالت تغلف تصرفاتهم وسلوكهم حيال ما يجرى اليوم.... لم يبادر إلا قلة قليلة منهم بإعلان مساندة أحلام الغد بينما يتمسك الباقون بسياسة توخى الحذر رغم أن ما يمكن أن يساهموا به لن يكون فى جميع الأحوال إلا قدرا يسيرا من ثروات ضخمة تتداول أرقامها الدوائر المالية والاقتصادية فى مصر وخارجها.... مشاركة نخبة رجال الأعمال فى عملية إعادة بناء الوطن لا تحتمل المزايدات أو محاولات البعض الادعاء أن المساهمة فى صندوق المشروعات بدعة بينما فى واقع الأمر هى أحدى وسائل التمويل بعيدا عن مد اليد إلى مؤسسات مالية دولية تملى شروطها على مصر أو الاستدانة من دول أخرى أو استمرار تلقى مساعدات لا تسهم فى تحقيق تنمية بقدر ما تزيد من عبء الديون على عاتق الأجيال القادمة. أيضا، يزيد من حيرة المشهد قوى سياسية لا تحترف سوى لغة الكلام والضجيج الفارغ المضمون ولم تقدم حلولا تليق بالقدرة الفائقة على التنظير الفكرى والسياسى فى الفراغ بينما كان الأجدر بها أن ترتب أولوياتها بما يتوافق مع المشهد الجديد.... ومن بؤس مشهد تلك القوى السياسية أننا نشم اليوم رائحة التربيطات الانتخابية التى تسعى لاستمالة اصحاب رؤوس الأموال إلى معسكرات بعينها لتشكيل جبهات أو مراكز ثقل فى البرلمان القادم وقد جاءت أولوية التربيطات الانتخابية متقدمة بكثير على قدراتهم فى الحشد وراء المشروعات القومية التى انطلقت مؤخرا وهو مشهد بائس بكل المقاييس لمن يريدون كسب أصوات المصريين بينما هم فى واقع الأمر يريدون الفوز بمقاعد وثيرة فى البرلمان تؤمن لأصحابها السلطة والنفوذ ومن ثم المال الوفير فى مرحلة لاحقة وتلك قصة أخرى سيأتى موعدها فى حينه! لقد بات مطلوبا من الحكومة اليوم أن تضع الرؤى التفصيلية للمشروعات الكبرى وأن تحدد حجم مساهمات القطاع الخاص والاستثمار الخاص حتى نضع كل واحد من نخبة المال والإعمال أمام مسئولياتهم وحتى لا تكون مصر بالنسبة لهم مجرد مكان للمكسب السريع دون إسهام حقيقى فى مشوار التنمية والعدالة الإجتماعية ينعم فيه أصحاب الأموال بالثراء وتضيق الأرض بما عليها على الفقراء ومحدودى الدخل وبينهما تقف الحكومة عاجزة عن الإنفاق على الخدمات العامة والاحتياجات الأساسية للطبقات المعوزة نتيجة شح الموارد وقلة الإيرادات التى يمكن أن يأتى الكثير منها عبر اصلاح النظام الضريبى وتقنين أكبر لمنظومة الدعم وبخاصة دعم الطاقة للوحدات الإنتاجية فى القطاع الخاص وهو مطلب طبيعى فى ظل الرفع التدريجى لدعم المحروقات الذى تم تطبيقه أخيرا وشمل الجميع بمن فيهم أبناء الطبقة المتوسطة والفقراء الذين تقبلوا الأمر ثقة فى رؤية قيادتهم السياسية. والأجدر اليوم أن نتجه إلى مزيد من التقنين حتى لا تذهب مواردنا هدرا وحتى لا يحصد البعض منا ما لا يستحق فعليا! فى كلمته الأولى بعد إعلان فوزه بمنصب الرئاسة قال عبدالفتاح السيسى إن «المستقبل صفحة بيضاء، وفى أيدينا أن نملأه بما شئنا، عيش وحرية.... إن افترقنا فقد أخفقنا فى حق الوطن، وإن تعاونا على البناء فسنحقق الرفاهية والازدهار، وما نرجوه لأنفسنا من عيش كريم وانتصار».. ليتنا جميعا نكتب سطورا ناصعة فى صفحة المستقبل حتى لا نتركها خالية من الأمل فى غد أفضل لأبنائنا وأحفادنا..