يبدو أن النسيان قدر الأديب صالح مرسي- الذى تمر ذكرى رحيله هذه الأيام- فقد ظل الناس يرددون عبارة «هى دى مصر ياعبلة» التى وردت على لسان أحد أبطال فيلم الصعود إلى الهاوية ألمأخوذ عن رواية له تحمل الاسم نفسه، حتى أصبحت أشهر منه. وبقيت هى ورحل هو منذ ثمانية عشر عاما ولا أحد يتذكره رغم تحويل العديد من رواياته إلى أعمال سينمائية وتليفزيونية مثل الكذاب, وزقاق السيد البلطي، ودموع فى عيون وقحة، ورأفت الهجان التى حظيت باهتمام المشاهدين الذين تابعوا لأول مرة وهم يحبسون أنفاسهم حكاية جاسوس مصرى زرع فى إسرائيل وتمكن من خداع اليهود طوال عشرين عاما. الملاح التائه أتم أديبنا دراسته الثانوية والتحق بالبحرية التجارية وظل يجوب البحار لسنوات إلى أن رست سفينته على شاطئ الأدب, الذى كان حلما يداعبه بعد تعلقه بقراءة الروايات بمكتبة والده، ثم راح يبحث عن المزيد بالمكتبات العامة كإبداعات محفوظ وإدريس والحكيم، وبالتحديد رواية بداية ونهاية لمحفوظ ,التى ذكر أنها كانت وراء تركه العمل بالبحر واشتغاله بالكتابة. وبعد أن نال شهادة الليسانس فى الآداب، تعرف أديبنا على يوسف إدريس وهو فى بداية شهرته فى منتصف خمسينيات القرن الماضي, عن طريق إرسال محاولاته الأولى فى القصة عبر البريد لإدريس, فشجعه على نشرها فى مجموعة قصصية، والرحيل إلى القاهرة، وهناك ارتاد المنتديات الأدبية والتحق بمجلة صباح الخير ونشر أول مجموعة قصصية بعنوان »الخوف«. ورشحت لجائزة الدولة لولا رفض العقاد لمجرد أن حوارها مكتوب بالعامية. طريق جديد حرص أديبنا أن يسلك دربا مغايرا فى الكتابة, فاتجه إلى عوالم البحر والصيادين ، ولطالما تجول فى حوارى الأنفوشى ورأس التين ورافق أصحاب الفلايك واستمع إلى حكايات الميناء وأساطيرها فكانت رواية زقاق السيد البلطي, التى نالت إعجاب نجيب محفوظ, كما نشر رواية بعنوان البحار مندى و لكن سرعان ما هجر أديبنا البحر لينزل هذه المرة على ضفاف النيل بالقاهرة ويعيش تجربة حقيقية كجرسون فى مقهى بحى السيدة زينب لكتابة رواية الكذاب. رواية الجاسوسية ثم ترك صالح مرسى أجواء القاهرة الصاخبة واقتحم عالم الجاسوسية فى وقت تاهت فيه الروح القومية فى زحام الانفتاح والدعاية للسلام والتطبيع مع اليهود، وبدأ بكتابة مسلسل للإذاعة عن جاسوس مصرى كان يعمل لصالح إسرائيل بسكرتارية المؤتمر الأفروآسيوى من واقع ملفات المخابرات- وتلته مجموعة قصصية بعنوان الصعود إلى الهاوية وروايات الحفار ودموع فى عيون وقحة وسامية فهمى ورأفت الهجان، وكلها كانت ملاحم وطنية تحاول إيقاظ الثقة بالنفس وأن هناك عدوا يتربص بنا ولا يجب أن نسترخى على مائدة السلام. ولم يكن أديبنا مجرد ناقل أمين من ملفات المخابرات بل كان يلتقى مع رجال المخابرات والأبطال الذين جندوهم للقيام بالمهمات الصعبة بداخل الوطن وخارجه للمعايشة قبل الشروع فى الكتابة، ونظرا لأن لكل جهاز مخابرات أسلوبه فى التعامل مع القضايا التى تخصه بمعنى أنه عندما يعلن عن إحدى عملياته، أو يصرح بنشرها فى شكل تسجيلي، فهو يعلن عن الخطوط الرئيسية فقط ، وهنا تبدأ مهمة الكاتب الدرامى الحقيقية وتتمثل فى أن يكسو هذا الهيكل بلحم ودم نابعين من الأصل وملتحمين به بحيث يصبح نسيجا واحدا لا نشاز فيه، فهناك أمور مطلوب أن يسدل عليها الستار ومعلومات لا يجب الإفصاح عنها وعلى الكاتب أن يجد بديلا خياليا ولكنه نابع من الواقع ومسايرا له، والكاتب يمكنه أن يبتكر شخصيات ثانوية ليكتمل شكل الرواية وتصبح عملا ممتعا للقاريء والمشاهد.