من أعجب ما نُشر هذه الأيام مقتطفات، قيل إنها من أوراق الإرهابى العتيد أسامة بن لادن وُجِدت بعد مصرعه، حذَّر فيها من مؤسسى داعش واعتبرهم دمويين! وهذا يثبت أنه كان خبيراً بالرجال عليماً بمآل الأمور، حتى بأفضل من خبراء أمريكاوبريطانيا وإسرائيل الذين لم يلتقطوا ما أدركه، ربما فى نفس الوقت الذى تورطوا هم فيه مع داعش فى مخطط شرير ساذج تصوروا فيه أن لهم الهيمنة على سير الأمور، وذلك وفق تسريبات للوثائق السرية الأمريكية التى نشرتها مؤخراً بعض الصحف العالمية! ثم تبين لهم سريعاً أنهم كانوا واهمين، فغيروا سريعاً من موقفهم! أو من يدرى، لعلهم كانوا يعلمون ولكنهم كانوا يختلقون الأسباب التى يمكن إعلانها وتَلقَى الرضا عندما يتدخلون بأنفسهم فى المنطقة مجدداً، تلبية لنداءات الاستغاثة بهم، وكأنهم لم يُجبَروا على الانسحاب منها قبل وقت قليل! انْظُرْ إلى هذا الإيقاع السريع للأحداث: ظهور مفاجئ لما سُمِّى داعش التى تستمد أفكارها من غلاة التطرف الإسلامى، وتجهزت بالعتاد الهائل والأموال الطائلة، وقد نسبت نفسها للسُّنة وأعلنت العداء للشيعة ولإيران وحلفائها، بشار وغيره، وانتشرت سريعاً واحتلت مساحات ممتدة فرضت عليها سطوتها الرهيبة، تساعدها أخطاء تاريخية من إدارة نورى المالكى الذى أخضع السنة لإذلال منظم من الحكومة المركزية بعد أن كانوا أعزاء فى عهد صدام، فأصبح السُّنة هم الحاضنة الأساسية لهم بأمل أن يعيدوا لهم الاعتبار، حتى وصل الأمر إلى توجيه الاتهام إلى قوات الجيش من السُّنة بتعمد عدم التصدى لداعش بل وترك المواقع والسلاح لها! ولكن سرعان ما تجلت رؤية أسامة بن لادن، ورأى السُّنة من سورياوالعراق، قبل أن يرى العالم كله، ما لم يره أحد من الأحياء على ظهر هذا الكوكب إلا فى أفلام الرعب أو فى كتب التاريخ البعيد، مذابح بمعنى الكلمة تُحزّ فيها الرقاب، وتُجزّ الرؤوس وتُركل بالأقدام، ويُصلب فيها الضحايا على أعمدة الإنارة وأسوار الحدائق، ويُجبَر الأسرى بالمئات على حفر قبورهم ثم رصهم فيها قبل رميهم بالرصاص، وتخريب لدور العبادة وعدوان رهيب على كل من لا ينتمى إليهم فى الدين والمذهب والطريقة، وأثبتوا للعالم أنهم يحتقرون الحياة ويتساهلون فى هدرها إزاء كل من هو مختلف عنهم..إلخ إلخ تجاوزوا طور الجماعة وأصبحوا دولة بعد أن صار لهم إقليم يسيطرون عليه، وأصبحوا يتوسعون تسبقهم سُمعتهم المخيفة مما يجعل السكان يَفرّون قبل مجئ قواتهم، ولديهم اتفاق مع الكبار يوفر لهم غطاءً حامياً، وهناك دول عربية ثرية تغدق عليهم لحساباتها الخاصة، مما جعلهم يتمادون كل يوم، وأعلنوا العداء ضد الجميع، وكشفوا عن طموح مجنون يسعى إلى حُكم الإقليم الممتد، وينشر الإسلام كما يفهمونه فى العالم، بل وأن يرفعوا رايته على البيت الأبيض! وقالت مخابرات أوروبية إنها رصدت حركات لبعض المتطرفين يسعون إلى القيام بعمليات فى أوروبا! هنا تفرض الأسئلة نفسها: هل انقلب زعيم داعش على حلفائه فى الغرب الذين صنعوه بأيديهم؟ أم أن القصور الذاتى للأمور صار أقوى من أى اتفاق، وأن مقاتليه، والمرَجَّح أنهم على غير علم بأى اتفاق، بل ربما لو علموا لما انضموا إلى الحركة، هم الذين صارت لهم كلمة مع النصر الاستثنائى الذى تحقق على أيديهم؟! هل يكون هذا الانقلاب هو سبب تغيير أمريكا وحلفائها للخطة؟ أم أن هذا هو الحدّ الذى وضعوه لتصاعد الأحداث الذى يسمح لهم بإعلان التدخل، وفق الجانب فى الخطة الذى كان سرياً على قيادة داعش؟ وأما آخر اللقطات حتى الآن، فقد جاءت فى أول تصريح لرئيس الوزراء العراقى الجديد قبل ثلاثة أيام دعا فيه المجتمع الدولى إلى معاونة العراق ضد داعش! (وبالمناسبة، فقد ناشد البرلمان الليبى العالم فى نفسه اليوم حماية المدنيين من خطر مشابه!) لاحظ أن الدولتين عندما حاق بهما الخطر لم تتوجها بنداء إلى دولة عربية ولا إلى النظام الذى ارتضاه العرب لأنفسهم المتمثل فى الجامعة العربية! كما أن الدول العربية وجامعتها لم يصدر عن أى منها ما يعطى أى انطباع عن أى نية فى اتخاذ أى إجراء! وكان منطقياً أن تسرع أمريكا، بالتنسيق مع بريطانيا، إلى استصدار قرار مبدئى من مجلس الأمن، من الباب السابع فى الميثاق، يُعرِب عن المخاوف ويُعبِّر عن القلق ويطالب باستعادة الأمن فى العراق، وهو مضمون يُجيز استخدام القوة فيما بعد! ولعل حزب الله اللبنانى كان الأكثر وضوحاً منذ ظهرت داعش فى الأفق، وأعلن العداء معها فى سوريا قبل أن تتعقد الحسابات، وقبل أن يتكشف خطرها فى العراق، وكان كلام حسن نصر الله واضحاً فى تصريحه مؤخراً بأن تدخُلَ حزبِه فى سوريا منع داعش من الدخول إلى بيروت! فأين مصر من كل هذه المخاطر التى تجاوزت المخاوف البعيدة وتجسدت فى إرهاب مادى تقوم به خلايا إرهابية فى سيناء تعلن علاقتها بداعش، إضافة إلى الخطر القادم من الجبهة الغربية؟ يبدو أن العاصفة لم تبدأ بعد، وأنها لا تزال تتشكل فى الأفق، وهو ما ينبغى معه أن يخضع قرار الحرب لحسابات كثيرة، ولا يشفع للعجلة أننا بالفعل فى حرب فعلية. قد تكون المواجهة مع داعش حتمية، ولكن المؤكد أن أهداف مصر فى القضاء على الإرهاب الذى يهدد أراضيها ومواطنيها، لا تتفق، كما هو واضح، مع أهداف قوى عالمية سوف تتدخل وهى تستهدف الإبقاء عليه، بل وتغذيه وترعاه وتوفر له الحماية، وتكون الحرب ضده هى الستار لتحقيق أهدافها الحقيقية! لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب