أعلنت الحكومة في يونيو الماضي و بشكل مفاجئ عما أسمته المنظومة الجديدة لدعم السلع التموينية. وبدأ تطبيق النظام الجديد بالفعل إعتبارا من بداية السنة المالية 2014/15، أي في الاسبوع الأول من شهر رمضان. جدل كثير أثاره النظام الجديد لدعم السلع التموينية. فالحكومة تتغني بمحاسنه و تعتبره خطوة لمزيد من العدالة الاجتماعية. ويتخوف البعض من أن يتسبب في خفض حجم الدعم الحقيقي الذي يحصل عليه الفرد. و آخرون يحذرون من أنه سيزيد من أعباء المعيشة علي الكادحين و يوسع من ممارسات الفساد في المجتمع. و لإستجلاء الحقيفة، لا بد أولا من التعرف بشكل أكثر تفصيلا علي النظام الجديد ومقارنته بالنظام القديم. بعد ذلك نقوم بتقييم هذا النظام. و سيكون معيارنا في التقييم هو ميزان الكفاءة و العدالة. ولكي نعرف ما هو النظام الجديد لا بد أن نتذكر النظام القديم لدعم السلع التموينية. فطبقا للنظام القديم، كانت هناك مقررات تموينية من أربع سلع أساسية (هي الزيت و الأرز و السكر والشاي) يحصل عليها الفرد بأسعار محددة و ثابتة منذ عام 2007. فمثلا الأسرة حتي أربعة أفراد، كانت تحصل شهريا للفرد علي 2 كيلو سكر بسعر 125 قرشا للكيلو و2 كيلو أرز بسعر 150 قرشا للكيلو و1.5 كيلو زيت بسعر 3 جنيهات للكيلو و باكو شاي (50 جراما) بسعر 65 قرشا. وأي فرد زيادة عن الأربعة يحصل علي كميات أساسية فقط: 1 كيلو سكر و نصف كيلو زيت و باكو شاي بنفس الأسعار. هذا عن النظام القديم. فماذا عن النظام الجديد؟ لا يوجد من المعلومات حول النظام الجديد سوي تصريحات المسئولين في وزارة التموين. و حاولنا الحصول علي معلومات مدققة بمراجعة الموقع الإلكتروني للوزارة: www.msit.gov.eg و لكن لم نجد شيئا و عدنا بخفي حنين كما يقول المثل. و طبقا لما تناقله الإعلام، فإن النظام الجديد لتوزيع السلع المدعمة تضمن تخصيص دعم نقدي بقيمة 15 جنيها للفرد علي البطاقة التموينية و إتاحة صرف 20 سلعة إضافية ولحوم ودواجن لحاملي البطاقات، لكن لم يتم الإعلان عن أسعار محددة لتلك السلع كما كان الحال في ظل النظام القديم. لذلك نرجح أن أسعار السوق أو ما يقرب منها هي الأساس. فمن غير المنطقي أن تكون هناك أسعار محددة كما في النظام القديمدون أن تعلن عنها الوزارة. إذن فالمنظومة الجديدة لا تتضمن أي إلتزام بأسعار ثابتة يشتري بها المواطن تلك السلع. و الالتزام الوحيد هو بمبلغ الدعم النقدي و قدره 15 جنيها للفرد شهريا. وهذا يعني أن الحكومة قد قررت تحويل الدعم العيني إلي دعم نقدي، دون أن تتشاور مع أحد، بل و حتي دون أن تعلن ذلك صراحة. بل هي تصر علي أن المنظومة الجديدة ستوسع فرص الاختيار أمام المواطن كمستهلك بدلا من فرض سلع معينة بكميات محددة عليه، كما كان الحال طبقا للنظام القديم. وهذا صحيح، فالمنظومة الجديدة تتيح اختيارا أوسع لمن يملك رفاهية الاختيار. و لكن أغلب حاملي البطاقات التموينية لا يملكون رفاهية الإختيار كونهم من الفقراء و المحتاجين، أي الغلابة. و بالنسبة لهؤلاء، فإن المنظومة الجديدة تعني عمليا أن يدفعوا مبالغ أكثر و يحصلوا من كل شىء علي كميات أقل. وهذا يتعارض مع العدالة الإجتماعية التي نادت بها ثورة 25 يناير. و تجدر الإشارة إلي أن المنظومة الجديدة بإعتبارها فعليا تحويلا للدعم العيني إلي دعم نقدي، هي في الحقيقة استجابة لأحد مطالب صندوف النقد الدولي التي نادي بها في أكثر من مناسبة. و لعل آخر هذه المناسبات كان في إجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي و البنك الدولي خلال شهر إبريل الماضي. فعلي هامش الاجتماعات،صرح وزيران في الحكومة المصرية هما هاني قدري وزبر المالية و أشرف العربي وزير التخطيط و التعاون الدولي بأن الحكومة المصرية جادة في اتخاذ تدابير لتقليل دعم الغذاء و الطاقة ضمن حزمة إجراءات في إطار ما يسمي الإصلاح الاقتصادي. كان ذلك في واشنطن العاصمة الأمريكية، و ليس في قاهرة المعز! وتقدم لنا أرقام مشروع الموازنة العامة الجديدة 2014/15 دليلا قاطعا علي أن الحكومة تتخذ مما تسميه المنظومة الجديدة لدعم السلع التموينية غطاء لتقليل دعم الغذاء. فطبقا للبيان المالي عن مشروع الموازنة العامة الذي أعلنه وزير المالية في يونيو الماضي، هناك تخفيض في قيمة دعم السلع التموينية من 34.6 مليار جنيه إلي 31.6 مليار جنيه، أي بمقدار 3 مليارات جنيه. إذن باعتراف وزير المالية في وثيقة رسمية، فإن الحكومة تنوي تخفيض دعم الغذاء و تحويله من عيني إلي نقدي. و قد يتساءل متسائل: و ما الضرر من ذلك؟ أليس تخفيض عجز الموازنة من لزوميات الإصلاح الاقتصادي؟ و الإجابة ببساطة: طبعا تخفيض عجز الموازنة من حيث المبدأ هو من لزوميات الإصلاح الإقتصادي. و لكن المشكلة هي في إختيار الإجراءات التي تحقق ذلك التخفيض. فلا يجادل أحد في ضرورة طرد الذبابة التي تقف علي وجه السيد، ولكن لا يوافق أحد علي ما قامت به الدبة بإلقاء حجر علي الذبابة حرصا علي سلامة سيدها فقتلته. و بالنسبة لتخفبض عجز الموازنة عن طريق رفع أسعار السلع الغذائية الضرورية، و هو جوهر المنظومة الجديدة، تكمن المشكلة في الآثار السلبية. إذ من شأن ذلك أن يغذي الضغوط التضخمية في الإقتصاد و أن يزيد من معدلات الفقر، خصوصا بين الأطفال، ما لم تتخذ تدابير وقائية في صورة شبكات حماية إجتماعية. و يؤكد ذلك نتائج دراسة حديثة لوزارة المالية (بالتعاون مع منظمة اليونيسيف و منظمة شركاء من أجل السياسة الاقتصادية). فقد أوضحت هذه الدراسة أن زيادة أسعار السلع الغذائية ( نتيجة رفع أسعار الطاقة كما حدث مؤخرا ) يزيد معدلات الفقر بين الأطفال بنسبة تتراوح بين 2% و 7%، ما لم تتخذ تدابير وقائية. كما أن إصلاح دعم الطاقة بهذه الطريقة يؤثر سلبا بدرجة أكبر علي الأطفال الذين يعيشون في المناطق الريفية، و في الصعيد علي وجه الخصوص. و بطبيعة الحال، فبالمقارنة برفع أسعار الطاقة، فإن إرتفاع أسعار السلع الغذائية في إطار المنظومة الجديدة ستكون له آثار أكثر قسوة علي الفقراء. وهذه نتيجة خطيرة للمنظومة الجديدة من الناحية الإنسانية و الإجتماعية، بل حتي بالنسبة للأمن القومي، و تحتاج إلي دراسة واقعية و إلي تدابير وقائية. أما الدراسة، فهي لم تتم بواسطة الجهات المعنية في حدود علمنا. و أما التدابير الوقائية، فبعضها موجود في مشروع موازنة 2014/15، لكن تتعارض معها إجراءات أخري بحيث إن المحصلة الأخيرة غير محسومة من منظور العدالة الإجتماعية. والأمر هنا بحاجة إلي إيضاح. في الجانب الإيجابي من منظور العدالة الاجتماعية، هناك زيادة في دعم المزارعين من حوالي 3 مليارات جنيه في مشروع موازنة 2013/14( و المتوقع لتلك السنة هو 854 مليونا فقط) إلي 3.4 مليارات جنيه في مشروع 2014/15. و هناك زيادة معاش الضمان الإجتماعي إلي 10.7 مليار جنيه، أي بأكثر من ضعف المتوقع في موازنة 2013/14. في المقابل، هناك تخفيض لدعم السلع التموينية بمبلغ 3 مليارات جنيه كما أشرنا. و هناك تخفيض لدعم تنمية الصعيد من 600 مليون جنيه إلي 200 مليون، أي بنسبة 66%. و هناك تخفيض لدعم الأدوية و ألبان الأطفال من 655 مليون جنيه إلي 300 مليون.، أي بنسبة 55%. كذلك هناك تخفيض دعم إسكان محدودي الدخل بنسبة 50%، من 300 مليون جنيه إلي 150 مليونا في مشروع موازنة 2013/ 14. و لا ننسي أن نضيف إلي كل ما تقدم تخفيض وزن رغيف الخبز المدعم من 130 جراما إلي 90 جراما، في إطار ما يسمي المنظومة الجديدة لتوزيع الخبز. هذا يعني زيادة سعر أهم سلع الدعم الغذائي علي الإطلاق، و هي الخبز المدعم، بنسبة 31% تقريبا! في الختام، نقدم بعض الإقتراحات لعل الحكومة تأخذ بها. أولا: مراجعة البطاقات التموينية التي بلغت 18 مليون بطاقة تغطي حوالي 70 مليون مواطن، و إستبعاد غير المستحقين و إدخال المستحقين ممن ليس لهم بطاقات. أما مبادرة رجع بطاقتك التي أطلقتها وزارة التموين فليست هي الحل. ثانيا: تبني سياسة للدعم أساسها التكاليف الحقيقية، مع تغيير السعر بالتناسب مع تغير التكاليف. ثالثا: الدراسة المتأنية و الاستعداد التام قبل بدء التطبيق لأي قرار، مع اختيار التوقيت المناسب حيث أن تطبيق المنظومة الجديدة خلال شهر رمضان و قبل الإستعداد الكافي أرهق الناس كثيرا. رابعا: بالنسبة لدعم الخبز، لا بد من العودة لتقديم دقيق مدعم بدلا من الخبز في الريف. خامسا: الإهتمام بقضية الإنتاج و ضبط الأسواق والأسعار. لمزيد من مقالات د. جودة عبدالخالق