لا أمل فى إصلاح المشهد الإعلامى الحالى إلا بالتركيز على الجيل الصاعد من شباب الصحفيين ودارسى وهواة الإعلام، فلم يعد تقديم النصح لمن يصفون أنفسهم بالنجوم والمشاهير وأصحاب النفوذ فى مجال الإعلام مجدياً، بعد أن أصاب معظمهم الغرور، وانغمسوا فى لعبة السياسة، وصاروا عبئاً على الحكومة، وخطراً على مصالح الشعب الداخلية والخارجية.. الأمل الحقيقى هو أن نعمل على تشكيل مشهد إعلامى جديد بحلول عام 2020، تبرز فيه كفاءات شبابية تخضع من الآن لرعاية واهتمام كبيريْن من أساتذة مخلصين على الصعيديْن السلوكى والمهني، بحيث تتحول القيم والمثل العليا إلى جزء ثابت فى تكوينهم وشخصيتهم، ويصبح نشر هذه القيم والمثل هو رسالتهم ومنتهى غاياتهم، دون الاكتفاء بالنظر للمكاسب المادية، ودون التورط فى تعقيدات اللعبة السياسية.. هذه هى القناعة التى تحرك الآن مؤسسة الأهرام، وفى القلب منها "معهد الأهرام الإقليمى للصحافة"، وهى القناعة التى ينطلق منها أى نشاط تدريبى شبابى داخل أو خارج المؤسسة، تحت اسم يلخص أهداف تلك الثورة الإعلامية البيضاء، هو "ميدياتوبيا"، نسبة إلى "يوتوبيا"، المدينة الفاضلة التى كان الفيلسوف الإغريقى "أفلاطون" يدعو إليها.. ولأن شباب "ميدياتوبيا" صاروا يزدادون عدداً وارتباطاً وإيماناً بالفكرة بشكل لافت للنظر، فقد صار من واجبى أن أحكى لكم عنها، لكى يعرف اليائسون أن أملاً كبيراً يلوح فى الأفق، وأن الفوضى الإعلامية إلى زوال، بشرط أن تحظى هذه الفئة الواعدة بدعم كل المؤسسات والشخصيات الوطنية، دون النظر إلى تشابك مصالحها مع أقطاب الفوضى فى المنظومة الإعلامية الحالية.. كان الدافع الرئيسى فى البداية هو لمّ شمل طلاب وهواة الإعلام النوابغ، الذين شرفت بالتدريس لهم فى القاهرة والإسكندرية، فى كيان أسرى واحد، بحيث يسهل تأهيلهم وتطوير قدراتهم، إلى جانب توفير الفرصة لتبادل الخبرات العملية والأكاديمية فيما بينهم.. لم أكن آنذاك قد كلفت بإدارة معهد الأهرام، لذا بادرت بدعوة ستين طالباً وطالبة على مسئوليتى الشخصية إلى معسكر إعلامي، استضافته قرية "فجنون" الفنية على طريق سقارة، بعد أن آمن صاحبها الفنان المخلص محمد علام بالفكرة، فبنى لهم بيوتاً خشبية بديعة داخل الحقول الخضراء فى زمن قياسي، أقاموا بها خمسة أيام كاملة (من 3 إلى 7 فبراير الماضي)، حفلت بعدد من الورش الإعلامية المختلفة، تطوع أمهر المدربين من مصر وخارجها بتقديمها مجاناً، إلى جانب حلقات سمر ليلية استضافت عدداً كبيراً من الإعلاميين ومديرى القنوات والشخصيات العامة، لمناقشة هموم وأحلام الشباب المشاركين، واكتشاف وتقييم مواهبهم.. لكن لعل من أبرز المشاهد اللافتة فى هذا المعسكر كان استيقاظ أفراده جميعاً فى تمام السادسة من صباح كل يوم، والتزامهم بتحية العلم والطابور الرياضى فى السابعة صباحاً دون تأخير، لأن الإعلامى ينبغى أن يتعود منذ صغره على الانضباط، وممارسة الرياضة، واحترام العلم والنشيد الوطني.. اخترت لهذا المعسكر اسم "ميدياتوبيا"، واقترحت أن تكون قيمته الأساسية هى "الأمانة"، لأنها أصل كل القيم الإعلامية، أما شعاره، فصاغه الطلاب بأنفسهم، وكان نصه: "كن أميناً، هكذا ستغير العالم".. ترك هذا المعسكر أثراً لا يوصف فى نفوس المشاركين به، فصاروا أسرة متماسكة، تحمل قناعات مشتركة، وتسعى لأهداف واحدة، ولمست ذلك فى سلوكهم، ومستواهم التعليمي، وخبرتهم المهنية.. ويكفى أن ثلاثة منهم كانوا طلاباً فى المرحلة الثانوية من هواة الإعلام، اثنان منهم ترشحا لتقديم برامج على التليفزيون المصرى. بعد المعسكر بأيام شاء القدر أن أتولى إدارة معهد الأهرام الإقليمى للصحافة، فدعوت رواد المعسكر إلى لقاء بإحدى قاعات المعهد، صاغوا فيه ميثاقاً أخلاقياً، تلوه فى لقائهم التالى أمام الإعلامى حافظ المرازي، ضيف صالونهم نصف الشهرى الذى بدأ المعهد فى استضافته، وجاء فى الفقرة الأولى من هذا الميثاق: "نحن رواد معسكر ميدياتوبيا الأول اتفقنا على عدد من الصفات والمعايير التى يجب أن يتحلى بها الصحفى والإعلامى بشكل عام، ونحن كMediatopians بشكل خاص، والتى سوف تشكل من الآن فصاعداً لائحة لسلوكنا المهنى والأخلاقي..."، وبعد أن سردوا هذه الصفات والمعايير، اختتموه بعبارة صادقة ومؤثرة قالوا فيها: "نتعهد أن نلتزم بهذا الميثاق ما حيينا على هذه الأرض، وأن نحرص على نشره قولاً وفعلاً بين زملائنا، حتى يصبح العالم كله من حولنا ميدياتوبيا"... الآن تجرى الاستعدادات على قدم وساق لمعسكر "ميدياتوبيا" الثانى من 15 إلى 19 أغسطس بالإسكندرية، وينظمه معهد الأهرام الإقليمى للصحافة هذه المرة، ويتوقع أن يضم أضعاف العدد السابق من طلبة وهواة الإعلام وشباب الصحفيين والمراسلين، وسيركز على أهمية أن يكون الإعلامى قدوة فى المجتمع.. هناك من ينشغل بالصياح على الشاشات، ظناً أن هذا هو سبيل الإصلاح والتغيير، وهناك من ينشغل بالخروج فى المظاهرات، ظناً بأن هذا هو الطريق لاستعادة الحقوق وتلبية المطالب، وهناك من لا يكف عن النقد والاحتجاج، ظناً أن هذه هى سمات الشخصية الثورية النموذجية.. بينما هناك من يؤمن فى صمت بأن التغيير الحقيقى يبدأ من تطهير النفس، والارتقاء بالسلوك، وترسيخ القيم النبيلة بين أبناء المهنة الجدد. لمزيد من مقالات د.محمد سعيد محفوظ