كانت الأمطار تهطل بشدة خارج مبنى السفارة المصرية فى إحدى عواصمأمريكا اللاتينية، حين اتصل السفير المصرى بدبلوماسى شاب حديث التعيين وطلب حضوره إلى مكتبه على وجه السرعة قال له إنه قد أعطاه تقدير ممتاز فى تقريره السنوى، إلا أن الوزارة أرسلت تستفسر عما ورد فى خانة الملاحظات التى كتب السفير فيها إن «الدبلوماسى الشاب له ميول ناصرية، وملاحظات على اتفاقية كامب ديفيد، والنظام الاقتصادى المعتمد على مدرسة شيكاغو الاقتصادية.. إلخ»، وسأله السفير «أليس ذلك صحيحاً؟»، وصمت الشاب تأدبا واكتفى بالقول إن تقرير الكفاءة السنوى متروك لتقدير رئيس البعثة، وأنه ليس لديه تعليق، ولكن السفير أصر على أن يسمع رأيه قبل أن يرد على الوزارة، وأمام هذا الإصرار أجاب الدبلوماسى الشاب بأدب ولكن بحسم بأنه لا ينفى أنه فى المناقشات مع السفير حول الموضوعات السياسية يبدى بالفعل انحيازا للتجربة الناصرية ، وينتقد اتفاقية كامب ديفيد وما جرته على مصر سياسة الانفتاح ، وغير ذلك ، إلا أنه عندما يمارس مهامه ، فأنه يدافع عن السياسة الخارجية الحالية لمصر، وأشار إلى سلسلة لقاءات تليفزيونية أجراها فى التليفزيون الرسمى للبلد المضيف، دافع فيها بشدة عن استراتيجية السلام التى اتبعها الرئيس السادات (ولو أنه فى الوقت نفسه انتقد تعنت إسرائيل وتاريخها الوحشى)، قال لسفيره مدافعا عن نفسه: «إن الدبلوماسى هو مواطن مصرى من حقه بل وواجبه أن يكون له رأى فى قضايا بلاده ، طالما ظل هذا الرأى داخل المطبخ السياسى، ودون أن يتأثر به موقفه فى مهام عمله الأصلية، وكان النقاش طويلا بينهما، ليس هذا محله الآن.. إلا أن ما أريد تسجيله هو أن السفير اقتنع بوجهة نظر الدبلوماسى الشاب، بل وطلب منه أن يعد مشروع الرد على الوزارة بنفسه، وهو ما رفضه الشاب بأدب، مؤكدا أن ذلك يدخل فى اختصاص السفير, ولقد واصل هذا الدبلوماسى الشاب الترقى حتى وصل إلى أعلى المناصب فى وزارة الخارجية .. أقول هذا بمناسبة تكرار الهجوم على وزارة الخارجية ، خاصة ما يثار من حين لآخر بشأن الولاء والانتماء ، وأؤكد بشكل قاطع أن الدبلوماسية المصرية من المؤسسات التى يتميز العاملون فيها بدرجة عالية من الولاء للوطن، والالتزام بخطه السياسى أيا كان نظام الحكم فى القاهرة، ومهما كان تعدد الآراء (الطبيعي) بين أبنائها من الدبلوماسيين، فهم محترفون يميزون بشكل دقيق بين الرأى الشخصى وبين التزامهم الوظيفى، وأشهد أنه طيلة خدمتى الطويلة فى الخارجية عرفت مئات من الزملاء الدبلوماسيين الذين تنوعت أفكارهم ومشاربهم، وكم تناقشنا بسخونة حول موضوعات وقضايا مصر الداخلية والخارجية، ولكن أحدا لم يتأثر فى عمله بتلك الآراء ، فتلك هى سمات مدرسة الدبلوماسية المصرية، وهى نفس السمات التى جعلت من وزارة الخارجية المصرية نموذجا يحتذى بين مؤسسات الدولة المختلفة، فهى الوحيدة التى استقال أكثر من وزير فيها لاختلافه فى الرأى مع رئيس الدولة، ولعلنا نذكر نماذج مثل إسماعيل فهمى، ومحمد إبراهيم كامل.. ولم يخرجوا على الملأ للمزايدة بموقفهم حتى لا يحرجوا رئيس الدولة، وإنما عرفنا التفاصيل بعد سنوات حين كتب بعضهم مذكراته.. ولكن للأسف ما أكثر العارفين ببواطن الأمور فى بلادنا الذين يسمحون لأنفسهم بغير علم بأن يجرحوا واحدة من أعرق مؤسساتنا الوطنية. عندما تسأل بعض هؤلاء العارفين ببواطن الأمور عن «من هو الدبلوماسى» ؟ ، فإنه يجيب فى الغالب بأنه ذلك الشخص الذى يحيى حياة مترفة بين القصور والفنادق الفاخرة ، يتبادل الأنخاب مع الملوك والرؤساء والوزراء ، ويعيش فى برج عاجى لا يشعر أو يفهم حال الناس فى بلده .. وقد يجيب عارف آخر - وما أكثر العارفين - وهو يشير بسبابته إلى رأسه كعلامة على الفهم والذكاء ويقول ضاحكا: «الدبلوماسى جاسوس محترف»أو هو الشخص الذى يمارس «فن الكذب الأنيق»، وسوف يجد من حوله يهزون رؤوسهم موافقين واثقين. ربما تحمل بعض الإجابات السابقة بعض ظلال من الصحة، وهى إن صدقت فانها تشير فقط إلى صورة نمطية لنماذج من الممارسات الدبلوماسية فى القرن السابع عشر فى أوروبا، حين كان المبعوثون الدبلوماسيون حتى نهايات القرن السابع عشر يحملون الرسائل ما بين الملوك والأمراء والأباطرة، ويتنقلون بين قصور النبلاء فى حفلاتهم الراقصة.. إلا أن هذه الصورة النمطية قد تغيرت بمرور الوقت، واصبحت الدبلوماسية علما وفنا يتطلب صفات شخصية وتدريبا مستمرا وخبرات مكتسبة تصقل كل ذلك بمرور الوقت . وقد حافظت الدبلوماسية المصرية على تميزها الذى ذاعت شهرته فى الأوساط الدولية المختلفة، ورغم ضآلة الإمكانات المادية التى تتوافر لها بالمقارنة مع أجهزة دبلوماسية فى بلاد أخرى. لقد استمرت مدرسة الدبلوماسية المصرية فى المحافظة على مستوى أدائها الراقى من خلال الإصرار على التدقيق فى اختيار الدبلوماسيين الجدد، حيث لا يمكن أن يلتحق بالخارجية إلا من يجتاز اختبارات صعبة، تشمل جميع المعلومات الضرورية المفروض توافرها فى الشخص المؤهل للعمل فى هذه الوظيفة الخاصة بما فى ذلك الإختبارات النفسية والصحية، فضلا عن اختبار شفوى لمن يجتاز الاختبارات التحريرية بنجاح.. وقد اشتهرت اختبارات وزارة الخارجية بالنزاهة. وأود هنا أن أوضح أن العمل الدبلوماسى لا يقتصر على السفارات والقنصليات، وإنما يشمل أيضاً المؤتمرات الدولية والدبلوماسية، والمنظمات الإقليمية والدولية، وتمثيل مصر فى مختلف المفاوضات التى تهدف للدفاع عن المصالح المصرية فى كل المجالات تقريباً مثل التجارة والاقتصاد والسياحة والطاقة والمناخ ونزع السلاح وحقوق الإنسان.. إلخ . وكما هو مستقر فى مفهوم العالم كله فانه من المعروف أن السياسة الخارجية مكلفة، وجميع دول العالم بلا استثناء تنفق بسخاء على أجهزة تمثيلها الخارجى، والعائد يفوق هذه النفقات أضعافاً مضاعفة. وأستطيع أن أؤكد - من واقع خبرة طويلة - أن الإنفاق المصرى فى مجال التمثيل الخارجى يتميز بالرشادة ، ولولا أننى لا أريد أن أثقل على القارئ الكريم بالأرقام والإحصاءات لأوضحت أن إجمالى ما تقوم بعثاتنا بتحصيله من رسوم مختلفة مثل التأشيرات والتصديقات وغيرها، يقارب الميزانية المخصصة للإنفاق على تلك البعثات ، ولو أمكن الموافقة على زيادة رسوم التأشيرة بنسبة 10% مثلاً، فربما يكون عمل بعثاتنا فى الخارج مصدر إيراد حقيقى للدولة.. إن ما يظهر من نشاط البعثات الدبلوماسية المصرية لا يتجاوز قمة جبل الثلج، لأن أغلب عملها يتميز بالسرية، وغير مسموح أو مناسب بأن يتحدث أى دبلوماسى عن نجاح تحقق مثلاً فى تفاوض أو فى صفقة ما، لأنه قد يكشف بذلك عن التكتيكات التى استخدمها ، وربما هو قد أقنع المفاوض الآخر بأنه قد وافق رغم الخسارة !! .. وأقول فى النهاية لهؤلاء البعض من العارفين ببواطن الأمور: «ارفعوا أياديكم عن وزارة الخارجية .. من فضلكم».. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق