فى الماضى لم يكن عالم الجاسوسية يتجاوز القصص الخيالية والأفلام السينمائية، لكن الأمر تغير كثيرا مؤخرا فالقصص الواقعية للجواسيس أصبحت أقرب كثيرا حيث أصبحت حديث وسائل الإعلام بعدما أصبح أبطالها مسار جدل بين البطولة والخيانة لكشفهم عن وثائق وحقائق وأسرار كانت سببا رئيسيا فى أهتزاز الصورة التى طالما رسمتها أمريكا لنفسها بتقمصها دور الراعى الأوحد لحقوق الإنسان. ومؤخرا تصدر قائمة هؤلاء الجواسيس إدوارد سنودن الموظف لدى وكالة المخابرات الأمريكية، والذى عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومى الأمريكية قبل أن يقوم بتسريب معلومات سرية للغاية خاصة بالوكالة إلى جانب كشفه تفاصيل عن برنامج تجسس سرى للحكومة الأمريكية لمراقبة اتصالات الهواتف والإنترنت. وبعدما وجه له القضاء الأمريكى رسميا تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطنى دون إذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية، أضطر سنودن للفرار خارج البلاد وكانت قبلته الأولى "هونج كونج" التى لم يستمر بها سوى شهر, وبعد أن أعلنت حكومتها طلب الولاياتالمتحدة بتسليم سنودن لها, لاذ بالفرار ليتوجه للعدو الأكبر لوطنه بتقدمه بطلب اللجوء السياسى لروسيا، وبعد أن أمضى اكثر من شهر فى منطقة الترانزيت بمطار تشيريميتيفو فى موسكو، منحته السلطات الروسية حق اللجوء المؤقت لمدة عام بدأ يوم 1 أغسطس 2013, وقد انتهى أمس, لذا فبعد عام من الاختفاء والإبتعاد عن وسائل الإعلام كليا, حتى إن مسكنه ظل لفترة طويلة غير معلوم، أثيرت قضية سنودن مرة أخري, فمع تضاؤل فرص العودة إلى بلاده أو الحصول على حق اللجوء للبرازيل، تقدم سنودن بطلب للسلطات الروسية بطلب تمديد اقامته فى روسيا, ولكن فى حال رفض الطلب إلى أين سيلجأ سنودن؟ ولم يذكر الكثير عن سنودن طوال العام الماضى سوى نشر عدة صور أتخذت له خلسة كان آخرها اكتوبر 2013 حين ظهر مرتديًا قميصًا قطنيًا احمر وقبعة لونها بيج، وبدا حينها وكأنه يتنزه فى قارب على نهر موسكفا، تلك الصورة التى كانت أولى الضربات التى سددت لميشيل هايدن المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الامريكية الذى خرج للإعلام سبتمبر الماضى ليعلن أنه يتوقع لسنودن حياة ممله وكئيبة ومنعزلة ومحبطة وعديمة الجدوى فى روسيا بل وربما يلجأ لإدمان الكحوليات لينسى ما أقترفه من ذنب تجاه وطنه. الأمر الذى جاء على النقيض خاصة بعد ما ذكرته صحيفة "الجارديان" البريطانية مؤخرا بعد إجراء حوار مع سنودن, والتى أكدت أن هناك تغيرا ملحوظا له منذ أخر حوار أجرى معه أثناء تواجده فى هونج كونج حيث كان يبدو آنذاك نحيلا وضعيفا ويرتدى ملابس غير مهندمة ويبدو عليه الحزن والقلق, على عكس اللقاء الأخير, والذى كان يبدو فيه أكثر بدانة وتفاؤلا ومرحا وتصالحا مع النفس. وقد سعى سنودن لإيضاح بعض النقاط التى أثيرت حوله مؤخرا والتى كان أبرزها ما تردد عن عمله مع إحدى الجهات المخابراتية الروسية الأمر الذى نفاه نفيا مطلقا بل وأكد أنه لم يعمل لصالح أى منظمة روسية ولم يمنحهم أى معلومات منذ لجوئه لها، وأنه غير مرتبط بأى جهة ويعيش من الأموال التى يدخرها من المحاضرات التى يلقيها حول العالم عبر الانترنت. وذكر سنودن الذى يبلغ من العمر 31 عاما أنه يقضى غالبية أوقاته على الانترنت حيث إنه يسعى إلى تطوير تكنولوجيا سهلة الاستخدام لإحباط برامج المراقبة الحكومية فى جميع أنحاء العالم, إلى جانب تصميم آلات للتشفير لمساعدة أصحاب المهن على حماية بياناتهم وبيانات زبائنهم كالمرضى مثلا، كما ان مشروعه يساعد الصحفيين على حماية مصادرهم وبياناتهم. ولم يختلف أنطباع المخرج والسيناريست الأمريكى الشهير أوليفر ستون, الذى قرر تأليف وإخراج فيلم روائى يتناول حياة سنودن – طبقا لما ذكره مؤخرا لصحيفة "الجارديان" عقب زيارته لسنودن فى أحد الفنادق بموسكو, فكان يريد معرفته عن قرب ورسم صورة له ولشخصيته خاصة بعد قضاء عام فى منفاه, ولكنه فوجيء بشخصية بارعة الذكاء وصاحب طموح لا حدود له. كما أنه شخصية عنيدة جدا فلم تمنعه أقامته بروسيا من مهاجمة رئيسها, واتهامه بكبح حرية الرأى وكبت الأصوات المعارضة له, وقد ذكر ستون أنه على مدى 7 ساعات مدة حوارهما لم يشرب سنودن ولا كأسا واحدا وحينما طلب من سنودن التعقيب على ما ذكره هايدن جاءت إجابته ساخرة "كنت أظن أن وكالة المخابرات تختار رجالا أكثر ذكاء من هايدن". سنودن بتسريبه وثائق تدين الولاياتالمتحدة, استطاع أن يؤثر على علاقاتها بحلفائها وخصومها الخارجيين، بل أثار عاصفة من ردود الفعل الداخلية، واستغل نواب جمهوريون فى واشنطن قصة سنودن لتصوير أوباما على أنه زعيم غير كفء على صعيد السياسة الخارجية, وأن الضجة التى أثيرت بشأن سنودن علامة على ضعف أوباما والمكانة الدولية المتراجعة للقوى الأمريكية، مقابل أرتفاع شأن خصمها الروسى وتقدمه. لذا يراه البعض خائنا لإضراره بمصالح وطنه بينما يراه البعض الأخر بطلا ورمزا للنضال والحرية, فبعد فشل المحاولات التى قام بها من أجل إصلاح النظام, وجد سنودن نفسه مضطراً إلى انتهاج الطريق الوحيد المتاح أمامه لجذب الانتباه إلى هذه الانتهاكات الفظة للقانون دون أى مصلحة أو منفعة مادية من ذلك بل إن الأمر كله يكمن فى رغبته فضح الإنتهاكات التى ترتكبها الولاياتالمتحدة حتى لو كلفه ذلك البعد عن وطنه وأسرته وأصدقائه والبحث عن منفى يمكث فيه مهددا ووحيدا أو الرجوع للجحيم الذى ينتظره بأمريكا.