« لا يوجد بلد فى العالم مُغرم بالإحتفالات مثل مصر ، فلا يكاد يمر يوم حتى نرى فيه احتفالاً ، فالمصريون مغرمون بها « هكذا وصف الرحالة بول لوكا حال المصريين فى القرن الثامن عشر ... والاحتفالات فى مصر بالأعياد ذات مذاق خاص وسواء أكنت غنيا أو فقيرا ، نبيلا أو شحاذا ، من الملوك أو الصعاليك فسوف تجد فى مصر الفرحة والسعادة وطعم الأفراح على كل المستويات ، فطقوس الملوك فى الاحتفال بالأعياد تختلف عن طقوس عامة الشعب ، وهذا ما تؤكده الوثيقة التى أعرضها اليوم وهى عبارة عن دعوة تحمل الشعار الملكى مُرسلة من مدير الغربية الى أحد الأشخاص يدعوه فيها الى مقابلته بسراى عابدين العامرة فى الساعة الثامنة أفرنكى من صباح يوم السبت الموافق 4 ديسمبر 1937 للمثول بين يدى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فاروق المعظم حفظه الله لتقديم فروض التهنئة والتبريك بعيد الفطر المبارك ولم ينس مرسل الدعوة أن يؤكد أن الحضور ببدلة التشريفة لحائزى الرتب والردنجوت والملابس الأهلية الرسمية لغيرهم . ويبدو أن تقليد الذهاب الى قصر عابدين لتقديم التهنئة للملك أو الحاكم هو تقليد قديم حيث يؤكده البرت فارمان فى كتابه « مصر وكيف غُدر بها « فيقول أنه فى صباح اليوم التالى لانتهاء الصيام تبدأ أول أيام العيد الثلاثة المعروف بالعيد الصغير وهو موسم الزيارات والمقابلات والحفلات وتقديم الهدايا للإطفال والخدم وارتداء الثياب الجديدة ، وفى يوم العيد يسمح الخديو بالمقابلات ( وهو هنا يقصد إسماعيل ) بداية من الساعة السادسة صباحاً حيث يقابل ضباط الجيش بعد ذلك يتقدم الزوار على اختلاف درجاتهم بترتيب قد أُعد من قبل فيبدأ بمقابلة رؤساء المصالح وكبار الموظفين ثم رجال الدين فرجال القضاء وممثلى التجار والوجهاء والأعيان وأصحاب المقامات وقضاة المحاكم المختلطة وأخيراً حوالى الساعة الحادية عشرة يتقدم اليه ممثلو الدول الدبلوماسيون وهم دون غيرهم الذين يحظون بشرف الجلوس بين يدى الخديو حيث تقدم اليهم القهوة ويتبادلون الحديث مع سموه ويقدمون له التهانى بمناسبة العيد . أما البسطاء من الناس فقد سجلت ريشة الرسامين احتفالاتهم ونشرتها على صفحات الجرائد العالمية طوال القرون ال17 وال18 وال19 ومنها اللوحة التى نشرتها The Illustrated London News يوم السبت 6 مارس 1869 على صدر صفحتها الاولى لمناظر الاحتفال بالعيد فى الإسكندرية وفيها خليط بشرى متناغم ومتمازج على غرابته فمنهم الأطفال على الأراجيح والألعاب الدوارة وحاوى أو شخص يقف على عصا طويلة يبدو من ملابسه الأفرنجية أنه أوروبى وطبال وباعة وعدد من النساء يصطحبن أطفالهن وفتيات يتأرجحن ولكن اللوحة على ازدحامها بالتفاصيل تنطق بالسعادة والفرح ، ويصف الدكتور الهام محمد ذهنى احتفالات الأعياد فيقول « ومن الاحتفالات الدينية الهامة الاحتفال بعيد الفطر حيث تضاء القاهرة بالمشاعل والأنوار وتزدحم الشوارع بالناس والوفاق يسود بين المسلمين والأقباط ، فالأقباط حريصون على حضور هذه الاحتفالات حتى أن الأثرياء منهم يتبرعون للإنفاق على تجديد أضرحة بعض الأولياء والمشاركة فى الاحتفالات ... أما الدكتور سمير عمر ابراهيم فيقول فى كتابه الحياة الاجتماعية فى مدينة القاهرة خلال النصف الأول من القرن ال19 أن الاحتفال بالعيد الصغير يبدأ بعد الشروق حيث يظهر الناس فى حللهم الجديدة ويجتمع الرجال فى المساجد للصلاة ويتعانق الأصدقاء مهنئين بعضهم ويتزاورون ويلبس البعض حتى من عامة الشعب ملابس كاملة جديدة ويقدم السيد لخادمه على الاقل قطعة ثياب جديدة ويتناول الخادم بعض قروش من بعض أصدقاء السيد عند الزيارة أو التهنئة . وكانت العادة أن تُطلق المدافع ثلاثة أيام وقد تعود الناس على تناول الفسيخ والكعك والفطير والنُقل ( المكسرات ) كالزبيب والبندق وتغلق المحال فى هذه الايام ماعدا محال المأكولات والمشروبات وتبدو الشوارع أكثر بهجة وتذهب بعض النساء لزيارة المقابر لتوزيع الفطير والبلح على الفقراء ويستأجرن بعض الفقهاء لتلاوة القرآن ثم يعدن فى أخر النهار والبعض منهن يبقى فى خيام بجانب المقابر حيث تقام عدة أراجيح وخيام كبيرة يعمل بها الراقصون ورواة أبو زيد الهلالى وغيرهم من اللاعبين. إنها مصر الجميلة التى تعشق الحياة والاحتفالات والأعياد حتى بالقرب من المقابر ، والله على مصر زمان .