صلتى الإنسانية والمهنية بها تمتد لخمسة عشر عاماً، كان من حسن حظى أن أتتلمذ على يديها فى مجلة نصف الدنيا ضمن جوقة كبيرة من الزملاء الذين انتشروا وأثروا بلاط صاحبة الجلالة بمواهبهم المتميزة .. دينامو الصحافة التى تشربت أصول المهنة من منابتها وأساتذتها – مصطفى وعلى أمين – استطاعت أن تجعل هذه المجلة لأكثر من عقد ونصف مرجل لا يهدأ .. كل منا «ترس منتج» وفقاً لقدراته ومواهبه ومجال تميزه .. فى يوم ما قال الشيخ أو العلا لأم كلثوم : إنك تغنين بدمك بكيانك .. وهكذا كانت سناء البيسى منغمسة ومتوحدة فى عملها الذى تعشقه ولم أشاهدها يوماً واحداً مهما كانت الظروف أو المصاعب تعمل من فوق الوش أو سد خانة .. شجرة صفصاف فى انسيابها وظلها ورحابتها وسخائها ورقتها وواقعيتها فى التواجد والانتشار. تمتلك من روح الأستاذية ما يفيض على كل من حولها .. تنفخ فى الرماد لكى تشعل جمراته من جديد قبل أن يخمد .. تحملك المسئولية .. تشجعك بلا تحفظ .. تحميك من صغائر المهنة الروتينية أحياناً .. ترعى التراث والقيمة والميراث الثقافى لكل رواد مصر فى كافة المجالات .. جسوره ومغامرة .. تغمرك حميتها المتوهجة .. تعرف جيداً وبصورة فطرية كيف تتجه بوصلتها .. دون جلبة أو ضجيج أو إدعاء رغم أنها ثانى امرأة صانعة للمواهب فى الصحافة العربية بعد روزاليوسف. تواجه بياض الورقة بأسلحتها الخاصة «ثروتها اللغوية» التى تسكبها ناراً تشتعل فى وجدان قارئها .. عاشقة الرسم بالكلمات .. تشتبك مع الواقع وتجيد الدخول مباشرة إلى بؤرة الحدث من زاوية خاصة جداً وتسبح فى الأحداث الجارية دون أن تبتل ثيابها.. فى أعماق هذه المبدعة يسكن قبيلة من النساء .. فشخصيتها تنطوى على ثنايا عديدة فهى مشحونة دائماً بكل تاريخها .. وهى أديبة أثرت المكتبة العربية بقصصها القصيرة .. قلمها كالسيل الجارف يجيب باحتراف عن كل ما قد يتبادر إلى ذهنك .. هى ملكة التفاصيل الدقيقة والمنمنمات الفنية وفسيفساء الكلمات باقتدار شديد .. وتد من أوتاد اللغة العربية – حفظها الله – فى زمن نعانى فيه من أجيال بلا حصانة لغوية .. صاحبة المقال المستطرد فى المساحة .. لكنه مكثف المعانى .. تطلق فراشات إبداعها فى شوارع مصر وأزقتها وتترنم بأعلامها فى الفن والأدب والسياسة ومذاهب الفن التشكيلى والمدن والأزياء والعمارة وكل الدنيا .. لا تعرف الكتابة الداجنة وليست مصابة بلوثة التنظير .. تلتقط أعلى الأصوات داخلها وشهيتها مفتوحة دائماً على الصدق .. خيالها خصب لا ينضب أبداً .. قد تولع ببيت من الشعر لكنها لا تقيم فيه .. فنانة تشكيلية أطلت على الفن من شرفة زوجها الفنان الكبير منير كنعان .. الذى وصفها بأنها قطعة شيكولاته .. اعتادت أن تقرأ المدى وتكتب السحاب وترسم البهجة والأمل وتداعبك بالسخرية .. المتمردة على الروتين والأضواء وجلسات النميمة والثرثرة وحضور الحفلات والتصوير أمام العدسات التليفزيونية .. تعشق ميكروفون الإذاعة .. بارعة فى الارتجال لا تجيد لعبة الأقنعة .. تضيق المساحة إلى حد التطابق بين داخلها وخارجها .. فالكتابة تتوازى مع عالمها الخاص والخفى فهى تدخلك إلى دهاليزه وأعماقه فى سياق السرد حيث لا يوجد فرق بين الكلمة كمعنى مجرد وبين وجودها فى سياق الأبجدية .. فلتت منذ نعومة أظافرها من إسار مدرسة الببغاوات والنمطية وصكت فى الصحافة مئات الكلمات التى تم تدويرها .. لم نعهدها يوماً عاشقة للشهرة وألقها .. لكنها تنتمى لعالم المعذبين فى الأدب الذين يسعون وراء المعانى المراوغة فتحتشد أسبوعياً فى مقالها لهذا الصيد الثمين بكل ما أوتيت به من مهارة فى القنص والصيد ونصب الفخاخ .. مستعينة دوماً بشمعة تضئ الطريق ومرآة تعكس الضوء وتضاعفه والله المستعان .. تحرك روح القراءة لدى قارئها فيجوب الجريدة بحثاً عنها .. فالعقد لا ينفرط من بين يديها أبداً مهما كان الموضوع الذى تتحدث عنه ومع ذلك أعتادت جوائز الدولة تجاهلها بانتظام عجيب ! .. تحدثك عن بعوضة وقفت على قرن ثور وحين قالت له أثقلت عليك .. أجابها الثور : لا يهم .. فنزولك مثل رحيلك .. وتكلمك عن فلسفة ابن الرومى وأشعار شوقى وطموحات غاندى.. وسجل المليونيات والمظاهرات التى لا تنتهى. وإذا كان العالم يقف اليوم على قدم وساق يتسابق مع الزمن فى مجال القياسات البيولوجية وظهور براءات اختراع للدخول على الأجهزة الذكية من الهواتف والمعاملات الخاصة مثل بصمة الوجه وفتح المحمول عن طريق الرمش بالعين .. فى هذا المجال تملك سناء البيسى بصمة متميزة فى عالم الكتابة ومكامن السحر يصعب تقليدها أو تكرارها فهى صاحبة عدسة خاصة جداً تركض فى كل مكان وهذا هو سر قلمها المفعم بالحيوية والوجد الدائم لكل جديد .. سناء البيسى التى يتغلغل فى مسامها التراث الشعبى بكل خميرته من الحكم والأمثال والكتب ويضرب كذلك فى الأحياء الأرستقراطية وسير العظماء وابن البلد والغفير والعمدة والدوق .. كتابتها أشبه ما تكون برائحة النعناع فالشاى بالنعناع من أبرز خصوصيات المصريين التى يتفق عليها الجميع ويتوق الجميع إلى مذاقه .. أستاذتى زرعتى فينا الخضار وفى نفوس قرائك الأمل .. فى عيد ميلادك الذى يحل بعد غد نهدى إليك هذا الأريج المنعش وباقة زهور وقبلة على جبينك .. دمت لنا وكل عام وأنت بخير.