بمجرد أن تطأ قدماك أرض مطار «بينيتو خواريس» بمكسيكو سيتي سينتابك شعور غريب، فبعد رحلة طيران استغرقت أكثر من خمس عشرة ساعة تنقسم حواسك بين أمرين: الحاجة إلى الراحة، و الانسياق وراء الرغبة الملحة في اكتشاف تلك الأرض البعيدة، الوجوه في كل مكان مألوفة، لون البشرة يوحي بهذا الشعور، لكن الملامح تختلف كليا، ويقضي اختلاف اللغة على ما تبقى لديك من إحساس بالألفة، حتى إنجليزيتي المتعثرة لم تفلح في التحكم في الأمور، فلا أحد هناك يتحدثها تقريبا، فقط الإسبانية، و حتى هذه لن تجد شبها كبيرا بينها وبين إسبانية الإسبان أنفسهم! يظل هذا ملازما لك حتى تبدأ في التعامل مع الأشخاص هناك، تنكسر كل الحواجز ويشع الدفء المنبعث من أرواح المكسيكيين الذين لا يختلفون كثيرا عن الروح المصرية التي نعرفها من حيث الطيبة، والمزاج المرح في أغلب الأحيان، والاحتواء الإنساني. في شوارع «مكسيكو سيتي» يبدو كل شيء هادئا، مرتبا، يسير وفق منظومة كلية، كأن يدا خفية ترتب حركة البشر، والسيارات، رغم أنها من أكثر المدن ازدحاما على وجه الأرض، حتى في موقف الحافلات، النظام الصارم يسيطر على المشهد. بعد كل هذه الساعات التي طرتها حان وقت ارتياد آفاق المكسيك نفسها عبر حافلة، لمدة ست ساعات أخرى، لم أر الكثير لأن الليل حجب الرؤية، لفت انتباهي فقط أن الطقس المتقلب لا يؤثر أيضا في سيرورة المشهد، ففي ساعات انتظار حافلتي التي ستأخذني إلى مدينة «سامورا» الشمالية، بدأ الرعد يضرب السماء و أمواج البرق تتوالى، وهطل المطر غزيرا، قلت لنفسي: هذا الطقس لا ينتمي إليه مثلي! قبل دقيقتين كانت درجة الحرارة تقترب من الثلاثين، والآن تحولت إلى ما لا يتجاوز الست عشرة درجة. «سامورا» مدينة هادئة، ناعمة، تحتفي بالغرباء، تنتشر في جوانبها عربات تشبه عربات البطاطا لدينا، لكنهم هناك يبيعون خليطا من قطع الفواكه الاستوائية، وتحدها الجبال من كل اتجاه، وتتبعثر على جغرافيتها الكاتدرائيات القديمة، ولا يسألونك أبدا عن ديانتك كذلك! تحب «سامورا» الشِّعر، وتنتمي له، وأنا شاعر، ذهبت لأقرا قصائدي بالعربية، وتلقيها صديقتي المكسيكية «بيلار رودريجس أراندا» بالإسبانية.. فينبهر الجمهور الكثيف بلغة هذا الشاعر العربية، التي لا يعرفها، ولا يعرف معظمهم اسم البلد التي أتى منه .. حتى! رغم هذا، تبقى السماء التي تظللنا هنا، هي نفسها التي وجدتها هناك.