منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلى على غزة تأكد تقلص شعبية وحجم التعاطف بالشارع المصرى مع حركة حماس، حيث تحول التأييد لدى الكثيرين إلى ريبة من مجريات الأمور، خشية أن يكون هناك ما يتم محاولة تمريره وسط غبار معارك بلا أفق سياسى وقودها المدنيين الفلسطينيين، خلص رجل الشارع مبكرا إلى أنه لا يوجد مبرر لشن عملية »الجرف الصامد«، واستمرارها لأكثر من عشرة أيام، ولم يتعاطف كثيرا مع أطراف اقتنع بأنها تسعى لتوريط مصر أو ابتزازها. أطراف تستفيد بشكل مباشر من العملية وتوظفها اقتصاديا وسياسيا بشكل بدا معه أن العدوان على غزة كان بمثابة «قبلة الحياة» لحماس، بعد انهيار شعبية الحركة حتى داخل قطاع غزة، وهو ما رصده استطلاع رأى أجرته شركة فلسطينية لصالح معهد واشنطون، مؤكدا أن الأغلبية فى غزة ترفض سياسات حماس بشدة. هل من بين الأهداف المستترة للعدوان على غزة اختبار إمكانية اجتياز جماعى للحدود المصرية وإعفاء المحتل من مسئوليته القانونية والأخلاقية؟ الثابت أن »صواريخ« حماس لم تردع الحكومة الإسرائيلية عن شن الهجوم البري، وكيف ستردعها، طالما أن تل أبيب تشهد مظاهرات متتالية (تضم آلاف مؤيدين ومعارضين للعملية فى غزة) ما ينم عن عدم خوف من شن هجمات صاروخية حمساوية. فى المقابل كان مثيرا للريبة ملاحظة أن استمرار مئات الصواريخ لم يقتل سوى إسرائيلى واحدا فى عشرة أيام، يضاف له مجند واحد سقط فى العملية البرية. الأغرب صدور تصريحات شبه يومية من الجانب الإسرائيلى تعلن منذ الوهلة الأولى أنه: »ليس من مصلحة إسرائيل القضاء نهائيا على حماس لأن البديل سيكون أكثر تطرفا وخطورة«، وكأنها رسالة تطمين غير معتادة فى المعارك الكبري، وصلت لأقصى حدود الفجاجة بتصريح مسئول عسكرى إسرائيلى بارز بأن »إسماعيل هنية« رئيس حكومة حماس المقالة »غير مستهدف بالاغتيال«، بينما قتل الأطفال يوميا مستمر بلا هواده. ما يثير ريبة المراقب كذلك أن ما حدث ميدانيا تحت غبار »صواريخ« لا تردع، هو طلب الاحتلال من سكان شمال ووسط وجنوب غزة مغادرة منازلهم فإلى أين سيتجهون إذن؟ الاجابة سيناء حسب كل الشواهد والدلائل، فى إطار تحركات من واشنطن لقطر، ومنها لحماس الخارج، ثم حماس الداخل. المخطط الإسرائيل، غير المعلن، يؤكد أن حكومة نتنياهو تجاهلت الطريق الواضح للضغط الحقيقى على حماس، فلم تطرح مفاوضات جادة مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن، بدلا من المراوغة لنحو عامين وكأنها تفرغ انجازه فى إعلان فلسطين دولة معترف بها فى الأممالمتحدة من مضمونه، رغم أنه من الممكن بإخراج مماثل لعملية »الجرف الصامد« يتم تعزيز مكانته كبطل قومي، وصقر حقيقى مع تقدم ملموس فى المسيرة السياسية، يقنع المواطن الفلسطينى والعربى بأنه يوجد أمل فى انتزاع بعض الحقوق بطرق سلمية تتضمن أنواعا كثيرة من المقاومة وليس فقط الكفاح المسلح باهظ التكلفة بالنسبة للمدنيين الفلسطينيين. بكل تأكيد استفادت إسرائيل من الجرف الصامد باختبارها منظومة القبة الحديدية، وإلهاء الرأى العام الإسرائيلى عن فشل اقتصادى واضح لحكومة نتنياهو، واستفادت بكسب مزيد من الوقت تتهرب به الدخول فى مفاوضات جادة مع محمود عباس، وكسبت منذ اللحظة الأولى تبنى أغلب وسائل الإعلام الغربية لروايتها بشأن تعرض مواطنيها لمخاطر الإرهاب.. وسعيها للدفاع عنهم. وبعد أن ربحت قيادة حماس سياسيا واقتصاديا تم إخراج مشهد وقف اطلاق النار بما يصب فى مصلحة حماس حين أسرع مجلس الوزراء المصغر بالموافقة على وقف اطلاق النار، بينما بدت حماس وكأنها تتلكأ أو غير مجبرة على اتفاق كهذا، بعد أن أعادت الحكومة الإسرائيلية حماس المنهكة لصدارة المشهد بتصويرها وكأنها ند للترسانة الإسرائيلية، حتى لو تم هذا من خلال دروع بشرية تحمى الصواريخ. من جهة ثانية، تأتى إدارة هذه الأزمة من الجانب المصرى فى سياق ملف العلاقات مع إسرائيل ومع الفصائل الفلسطينية فى قطاع غزة الملقى على كاهل مصر، حيث يتوجب الاشادة هنا بأداء الرئيس عبد الفتاح السيسى ومعاونيه فى الأزمة، فالخط الذى تبناه هو الفصل بين المواقف المسيئة والعدائية التى اتخذتها عناصر من حماس وقادتهم ضد مصر وبين تحمل مصر لمسئوليتها الإنسانية والتاريخية والأخلاقية إزاء الاشقاء فى غزة، والابتعاد عن التصريحات النارية والكلام الفضفاض أو الإجراءات المتسرعة، مع تحقيق انجاز على الأرض فى وقت مناسب. وادخال أطنان من المساعدات الإنسانية العاجلة للقطاع المنكوب، فضلا عن اتصالات دبلوماسية مع الأممالمتحدة والرئيس الفلسطينى أبو مازن. رجل الشارع المصرى الذى تراجع عن التعاطف والتأييد لحماس صدمه تكرار تورط حماس فى مواقف عدائية لمصر بداية من »ركوب« ثورة يناير و«اختطافها« لصالح فصيل بعينه بقوة السلاح والعنف، مرورا بإصرار على بقاء الأنفاق حتى فى ظل فتح المعبر، وصولا لتصريحات غير مسئولة من قيادات بحق الشقيق الأكبر وجيشها. بشكل مواز لاحظ رجل الشارع - بعد تجربة مريرة عاشها فى ظل حكم الإخوان- أن الخط السياسى لحماس متناغم مع إسرائيل إلى حد بعيد، قد يكون من قبيل التنسيق أو فقط تقاطع المصالح، لكن الظاهر أن الاتفاق مع إسرائيل دوما يكون أسهل وأسرع والالتزام به يكون شاملا ودقيقا وصارما، بينما سياسة التفتيت والتقسيم الداخلى راسخة بشكل يذكر بالتيار المستشرى فى كل الدول العربية التى تعانى من مشاكل داخلية خطيرة وأعنى التيار المفتت للعراق وسوريا وليبيا. تيار لا يرى أن مصلحته الضغط على تل أبيب للإفراج عن مقاوم شاب ديناميكى له أرضيه وشعبية فى الشارع الفلسطينى بحجم »مروان برغوثي« ، لأن وفقا لحسابات حماس الإفراج عنه سيضر بمصالحها ولتذهب القضية الفلسطينية والمقاومة الشريفة للجحيم. نفس الحسابات التى تدفع حماس للضغط لانتزاع تواجد ولو مؤقت فى سيناء عبر الانفاق ، أو بالضغط المستمر لفتح الحدود دون رقيب، دون ممارسة ضغط مماثل لاستعادة بعض الحقوق المغتصبة من إسرائيل. المواطن المصري، لا يزال يدعم القضية الفلسطينية، لكنه نفض يد تعاطفه عن فصيل لا ينظر سوى لحساباته ومصالحه، حتى ولو حققها من فوهات بنادق موجهة للأشقاء، فصيل يرقص المرة تلو الأخرى مع إسرائيل رقصة »تانجو شيطانية« حتى ولو كانت رقصة .. فوق جماجم الأبرياء. لمزيد من مقالات