لم يكن السقوط المدوي للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك مجرد قطرة الغيث التي تبشر بانهيار نظام فاسد, ولكنه كان نقطة فاصلة وكاشفة لكواليس السياسة الدولية حول العالم. فالتصريحات. والتعليقات المتلاحقة لقادة القوي الكبري في العالم وعلي رأسها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي, كشفت عن لعبة المصالح التي تمارسها الدول الكبري لخدمة مصالحها حول العالم. أثبتت الاحداث أن تأييد الغرب لرئيس ما من عدمه يعتمد بشكل أساسي علي مدي قدرته علي خدمة مصالحه, والسيطرة علي غضب الثوار أو إعادتهم إلي منازلهم سواء بالتهديد او بالعنف كان نقطة التحول بالنسبة لهم. إن تشدق الغرب بشعارات الديمقراطية يتوقف علي مدي استفادته من الزعيم, خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.فقد أثبتت الثورة المصرية بعد نجاحها في إقالة مبارك أن واشنطن لم تتعلم أن الرهان علي الديكتاتوريات خاسر, بل كشفت أنه لا يمكن السيطرة علي شعب من خلال أنظمته الديكتاتورية. كما أكدت أن اعتماد الديكتاتور علي الدعم الأمريكي في وقت الحاجة ضرب من الوهم. أمريكا والرهان الخاسر فعلي مدي إدارات متعاقبة تخلت الولاياتالمتحدة عن حلفائها الواحد تلو الآخر, مهما يكن الدعم وقوة التحالف الذي يجمع بينهم.. وغالبا ما كانت الكلمة الفاصلة لصحوة الشعوب المتمردة علي القمع والسخرة والظلم. فقد تخلت واشنطن في الماضي عن محمد رضا بهلوي شاه إيران, علي الرغم من ولائه المطلق لها وقربه الشديد منها. فسيل الإشادات الدولية الذي تدفق بمجرد إعلان اللواء عمر سليمان تنحي مبارك عن منصب الرئاسة وما سبقته من تصريحات تطالبه بالتنحي جاء بعد أيام من الترقب الحذر, شابه الكثير من التصريحات المتلونة والتلاعب بالألفاظ. ولكن ما لا يمكن إنكاره هو مدي قدرة المحللين والخبراء السياسيين علي التنبوء بسير الأحداث بعد سقوط مبارك, بدءا من التحذير من أن الأمر بدا كما لو كان انقلابا عسكريا أكثر منه انهيارا لنظام.. وانتهاء بحالة الغموض الاقتصادي والسياسي بل والاجتماعي التي تعيشها مصر في الوقت الراهن. ترحيب أمريكي.. بعد مراجعة ولكن عندما خرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما علي العالم مؤكدا أن:الشعب المصري قال كلمته, وسمع العالم صوته ومصر لن تعود كما كانت مرة أخري. فهذا يعني أن مبارك قد انتهت صلاحيته بالنسبة للولايات المتحدة. فلم يعد رجلهم في المنطقة بعد أن فقد سيطرته علي شعبه, وعجز عن اخماد الثورة التي أفقدته توازنه بين ليلة وضحاها. وأكد أوباما: أن تنحي مبارك جاء استجابة لما وصفه جوع شعب للتغيير, ولكن هذه ليست نهاية المرحلة الانتقالية ولكنها مجرد البداية.وأشاد الرئيس الأمريكي بما وصفه بوطنية الجيش وتحمله لمسئولية البلاد. ولكن إشادة الرئيس الأمريكي بسلمية الثورة المصرية, لم يكن هو موقفهم منذ بداية الثورة. فلا يمكن أن ننسي تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي أكدت فيها ثقتها في قدرة الحكومة المصرية آنذاك علي احتواء الموقف والسيطرة علي المتظاهرين, ولكن تصاعد الغضب الشعبي والزخم الجماهيري في ميدان التحرير هز هذه الثقة, بل ودفعهم للتخلي عن مبارك حليفهم الأول في الشرق الأوسط. أوروبا.. ورد الفعل الحذر أما أوروبا فتجنبت التغيرات الواضحة والعلنية في الموقف الأمريكي, فكما هو الحال دائما بالنسبة للقارة العجوز فإن قادتها أكثر حكمة وتعقلا في التعبير عن مواقفهم. ولكن حالة الترقب الحذر التي سادت أوروبا لم تدم طويلا فسرعان ما أدركوا أن مبارك وحكومته لن يصمدوا طويلا أمام التصعيد الشعبي المتواصل. فقد أكدت كاثرين أشتون الممثل الأعلي للشئون الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن الاتحاد يحترم قرار الرئيس مبارك اليوم, فتنحيه يأتي استجابة لرغبة الشعب وفتح الطريق أمام إصلاحات أسرع وأعمق. ودعا ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني المصريين لاغتنام الفرصة لتشكيل حكومة توحد الشعب, وتضع حجر الأساس لمجتمع منفتح وحر وديمقراطي. أما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي, فأعرب عن أمله في أن تتمكن السلطة المصرية الجديدة من العمل علي بناء مؤسسات ديمقراطية عبر انتخابات حرة ونزيهة.أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فعبرت عن ساعدتها الغامرة بهذه اللحظات التاريخية, في حين أكد سيلفيو بيرلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك أن الشعب المصري يصنع التاريخ كما هي عادته دائما. قلق صيني وكما كشف سقوط مبارك عن قسوة الغرب في التعامل مع حلفائه, كشف أيضا عن مدي رعب دولة مثل الصين من أن يصيب شعبها عدوي الثورة. فمن الملاحظ أنه لم تكن هناك أي ردود فعل رسمية تذكر علي تطورات الأحداث في مصر. واكتفت إحدي الصحف الرسمية في بكين بالتعبير عن أملها في أن يتعاون الشعب والجيش من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي في البلاد. شماتة إيرانية أما الموقف الإيراني فجاء معبرا عن مدي عداء طهران لمبارك ومن خلفه الولاياتالمتحدة وإسرائيل, فنجد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يعلق علي إقالة مبارك قائلا:علي الرغم من كل مخططات الغرب الشيطانية والمعقدة.. فإن شرق أوسط جديد يبزغ بدون نظام صهيوني أو تدخل أمريكي, وليس به مكان للقوي المتغطرسة.. وأضاف مخاطبا الشعب المصري من حقكم أن تكونوا أحرارا وأن تحكموا أنفسكم وتختاروا حكومتكم وحكامكم. توقعات.. تحولت الي واقع ولكن التحليلات والتوقعات السياسية التي تدفقت منذ اللحظة الأولي لسقوط الرئيس السابق كانت أصدق وأكثر واقعية من أي ترحيب رسمي أو تعليق سياسي علي التطورات المتلاحقة التي فاجأت العالم علي الساحة المصرية. فلم ينظر المراقبون السياسيون لما يحدث في مصر علي أنه إطاحة بنظام وبداية ليوتوبيا مصرية كما كان يأمل المصريون. ولكنهم اعتبروا أن تنحي مبارك ونقله السلطة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, ما هو إلا اعتراف من مبارك بالعجز عن معالجة هذه الأزمة الطارئة وإلقاء المسئولية علي عاتق الجيش لمعالجة الموقف بالشكل الذي يراه مناسبا للحفاظ علي النظام القائم وليس القضاء عليه. وأكد أحد المحللين الغربيين أن الجيش في مصر هو عمود النظام, فمنذ ثورة23 يوليو1952 والسلطة في يد الجيش. كما تنبأ المراقبون في الوقت ذاته بسيناريو الأحداث التي مرت به البلاد خلال العام الماضي, بدءا من صعود الإخوان المسلمين باعتبارهم الكيان السياسي الوحيد المتماسك والذي يتمتع في الوقت نفسه بشعبية واسعة بين كثير من طوائف الشعب المصري, يدعمه أيضا خلفيته الدينية وما تعرض له من قمع وظلم وحظر علي يد مبارك النظام المصري علي مدي العقود الماضية, وانتهاء بحالة الاضطراب والغموض السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي يعانيها منها الشارع المصري في الوقت الراهن. وحذر المراقبون من أن مصر تواجه طريقا وعرا وصعبا نحو الديمقراطية, فالطريق ليس ممهدا لعقد انتخابات تعبر عن توجهات الغالبية العظمي من طوائف الشعب.. فالشعب المصري يعاني الجهل والفقر والافتقار لأي ثقافة سياسية تؤهله لمواجهة الموقف السياسي الحرج الذي تعانيه البلاد في الوقت الراهن. وتنبأ كثيرون بصراع علي السلطة ما بين الجيش والصفوة الحاكمة وطبقة رجال الأعمال, وذلك في الوقت الذي تفقد فيه المظاهرات الشعبية زخمها ووحدتها, حيث تبدأ القوي السياسية المتعطشة للسلطة في تشتيت صفوف المتظاهرين الذين يبحثون بالأساس عن حقوقهم كمواطنين في دولة لم تحترم يوما انسانيتهم. ولكن هذه النظرة التحليلية للأمور كانت الأكثر تفاؤلا, فقد حذر الكاتب الأمريكي ديفيد إيجناتيوس في مقال تحليلي نشرته مجلة فورين بوليسي تحت عنوان ماذا يحدث عندما يتحول الربيع العربي إلي صيف؟ من أن تأخذ الثورة المصرية نفس مسار الثورات السوفيتية والإيرانية. ونقل الكاتب عن كتاب تشريح الثورات للكاتب الأمريكي كرين برينتون الذي أكد أن الثورات تولد نتيجة الأمل والبحث عن المستقبل المثالي, ولكن للأسف لا يحصد ثمارها سوي الطوائف المتطرفة من المجتمع لأنها عادة ما تكون الأكثر تنظيما وتأثيرا في المجتمع. وحذر برينتون من أن المرحلة الانتقالية مرحلة حساسة للغاية لابد من التعامل معها بتأن شديد فهي تحتاج لقيادة متعقلة ودعم مادي متواصل من الخارج. وأشار إلي أن الفترة الانتقالية قد تستغرق عدة أعوام يواكبها انهيار اقتصادي.. ولكن القيادة الجيدة قادرة علي التعامل مع مثل هذا الوضع الحرج بعقلانية شديدة.