فى توقيت بالغ الدلالة كان الكرملين أعلن عن عدد من القرارات التى يذكرها الكثيرون فى معرض استعراضهم لتضاريس سياساته وخريطة كوادره فى منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وإذا كنا سبق وتناولنا احد هذه القرارات على صفحات «الأهرام» تحت عنوان «كيربيتشينكو.. سفير الضرورة والسياق»، فاننا نجد أنفسنا ملزمين وانطلاقا من نفس الضرورة وذات السياق، الحديث عن الألمع والاقدر ميخائيل بوجدانوف، سلف كيربيتشينكو على ضفاف نيل القاهرة، وهو الذى كان وقع عليه خيار الرئيس فلاديمير بوتين لتعيينه ممثلا شخصيا له فى منطقة الشرق الأوسط. وكان صديقه وزميل دراسته سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية سبق واختاره نائبا له فى ديوان الوزارة مسئولا عن ملف البلدان العربية والافريقية، فى توقيت ثمة ما يشير الى انه كان علامة فارقة فى مسيرة تغيير سياسات روسيا فى الشرق الأوسط، جاء مواكبا لما أحدثته ثورات "الربيع العربي" من تغيرات. ولعلنا لا نجد بين قامات الدبلوماسية الروسية العتيدة، أقدر من بوجدانوف لتولى مثل هذه المهمة فى مثل هذه المرحلة بالغة الحرج التى تمر بها هذه المنطقة، وهو الذى جابها منذ صباه من أقصاها الى أقصاها. فبعد تخرجه فى «مصنع» الدبلوماسية السوفيتية الذى اسسه الكرملين تحت اسم «معهد العلاقات الدولية»، وعهد الى وزارة الخارجية السوفيتية ثم الروسية، بالإشراف عليه، اوفدته موسكو فى عام 1974 للعمل فى سفارتها فى اليمن، التى سرعان ما انتقل منها الى لبنان فى عام 1977، ومنها الى سوريا فى عام 1983 التى قضى بين جنباتها ما يقرب من تسع سنوات. وادراكا من جانبها لضرورة واهمية ما يتمتع به من قدرات وما اكتسبه من علاقات واتصالات، شاءت الاستفادة منها حين عكفت على محاولاتها لحلحلة ازمة الشرق الأوسط، قررت موسكو فى عام 1997 اختيار بوجدانوف سفيرا لها فى إسرائيل، وإن لم يستمر بها أكثر من خمس سنوات، عاد بعدها الى موسكو لتوكل اليه رئاسة دائرة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ومن هذه الدائرة التى أشرف على مقاليدها باقتدار، اوفدته موسكو الى القاهرة فى عام 2005 سفيرا ومبعوثا دائما لدى الجامعة العربية. وقد يكون من المناسب هنا أيضا الإشارة الى ان بوجدانوف كان آخر من التقى الرئيس الأسبق حسنى مبارك من الدبلوماسيين الروس والأجانب فى التاسع من فبراير 2011 ،وكان مرافقا لنائب وزير الخارجية الروسية السابق ألكسندر سلطانوف الذى اوفده بوتين الى مبارك حاملا آخر رسالة شخصية له قبل تنحيه عن منصبه فى 11 فبراير من العام نفسه. وقد يكون من اللافت أيضا ان بوجدانوف ومن موقعه كسفير لبلاده فى القاهرة استطاع ترتيب لقاء مماثل لوزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف مع عدد من القيادات الشبابية لثورة 25 يناير فى مقر اقامته على ضفاف النيل. وذلك يعنى ان بوجدانوف لم يكن بعيدا عما شهدته القاهرة من تفاصيل منها ما جرى وراء الأبواب المغلقة، ابان تلك الساعات العصيبة التى حددت الكثير من ملامح المرحلة وإطار التحولات اللاحقة، وهو ما لم يضن ببعض تفاصيله علينا فى معرض الكثير من تصريحاته وأحاديثه ل"الاهرام" فى حينه. وقد يكون من المهم فى هذا السياق التوقف لتاكيد ان بوجدانوف كان ولا يزال السند الحقيقى للدبلوماسية المصرية والعربية فى أروقة السياسة الروسية، حيث طالما عهدناه السلوى والملاذ حين تنطفئ الشموع وتوصد الأبواب ويروح الجميع ساسة وصحفيين، يبحثون عن حرف او إشارة يمكن ان تكون مقدمة لمخبوء الموقف، او ضوءً يميط اللثام عن المجهول. وبهذه المناسبة نقول ان ما سميت بالدبلوماسية الشعبية المصرية التى تقاطرت على موسكو عقب ثورة 30 يونيو لم تجد سوى بوجدانوف سندا ودعما خلال زياراتها للعاصمة الروسية. وكان بوجدانوف اول من استقبل الضيوف المصريين ليؤكد لهم اهتمام بلاده بما جرى ويجرى فى مصر من تطورات، قال انها لابد ان تغير وجه المنطقة، ومسار تطورها فى المستقبل القريب انطلاقا من قيمة مصر ومقوماتها كدولة محورية فى هذه المنطقة من العالم. وانطلاقا من ذلك كله، كان من الطبيعى ان يكون تكريم بوجدانوف مع عدد من زملائه ممن كانوا خير سفراء لبلادهم فى القاهرة، فى بيت مصر بموسكو خلال احتفالاتها بذكرى ثورتها المجيدة، علامة فارقة تؤكد حقيقة ان المصريين أوفياء للعهود وأصدقاء للتاريخ. ويبقى ان نضيف من الشواهد ما يقول ان ما اختزنه بوجدانوف من علاقات ومشاعر ابان سنوات عمله فى المنطقة العربية يبدو اليوم أفضل تكأة يستند اليها الجانب الروسى فى مداولاته ومباحثاته سعيا وراء الحلول الأمثل التى ينشدها الكثيرون من أبناء وأصدقاء المنطقة على حد سواء، للخروج من المآزق والملمات التى تحيق بالكثير من البلدان العربية، انطلاقا من تمسكها بمبادئ القانون الدولى وميثاق الاممالمتحدة ورفضها هيمنة القطب الواحد وما يتمسك به من المعايير المزدوجة.