اتخذ إبليس قرارا تاريخيا غير شكل الحياة على الأرض إلى أن غلبته إمرأة واحدة، إذ قرر أن يعتزل الشيطنة ويمشى بين الناس، بعد أن حاصرته اللعنات من كل جانب، فقد سمع فى جوف الليل عبدا يصلى فما ينتهى من سجدة إلا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فتتساقط لعناته على إبليس كحجارة من سجيل، كظم غيظه وتساءل بحسرة: كيف عجزت وعجز زبانيتى ومكتب إرشادى الذين يدبرون المكائد أن نغوى هذا العبد البسيط فى حين نجحنا بطرد أبيه آدم من الجنة، حتى الملايين الذين أغواهم إبليس بارتكاب الحماقات والمعاصى يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم قبل أن ينفذوا خططتهم لإفساد حياة الآمنين، فيرتعد لدعواتهم جسده كما يرتعد للعنات الذين يتلوون فى نار جهنم بعد أن أضلهم سواء السبيل! وبعد أن عرضت الأسبوع الماضى حيرته تحت عنوان "إبليس فى حضرة شيخ الأزهر وقداسة البابا" حين سدت كل الأديان منافذ التوبة فى وجهه، كما جاءت فى كتاب أرنى الله لتوفيق الحكيم، اليوم أتعرض لموقف جديد قرر فيه إبليس بغرور فردى أن يتوب ويعتزل الشيطنة، بعد أن شعر أن كبرياءه داسته الأقدام للمرة الثانية من الذين كرهوه والذين أطاعوه والذين ألقو فى نار جهنم لأنهم اتبعوه، بعد أن كانت المرة الأولى يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمء مسنون. إبليس يتوب..عنوان قصة مصرية ساخرة وكنز أدبى رفيع صدرت عام 1945وسجله خيال الأديب محمد سعيد العريان، ظهر فيه إبليس على الأرض فتى وسيما لا شيطانا يمشى على قدمين مشى الناس، وشعر لأول مرة كبشر أنه جائع، فمشى إلى ماخور طالما قضى فيه الليالى ينثر الشر والخطيئة، بين كل من يلتمس فيه ارضاء شهواته ، فتح الباب فوجد أجساد الناس لا تكاد تتحرك، وعيونهم محدقة فى الفضاء تتأمل فى حال بين الندم والاستغفار، فجلس “الشيطان سابقا" وحيدا وطلب طعاما، وراح يتسمع ما يدور فى النفوس، فرأى كؤوسا فارغة وملئى وزبانية كثيرون ومرأة بين كل رجلين،كتفا بكتف، ووجد رجلا أمامه أموال منثورة ووجهه عليه الخزى والندم والعار، واستمع لنفس الرجل تحدثه: كم نهيتك فلم تنته الآن ذق طعم الحرمان مما تملك من أمولك التى لا تجد من يجمعها، فلعلك لا تستمع لإغواء الشيطان من بعد! وازدرد الطعام وعرف لذته وأدرك لماذا كانت شهوة البطن أول هم الانسان، فوجد الرجل المذنب المتأمل قد مال على المرأة المجاورة له وهمس: أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟ فردت المرأة: عفوا ليس لى شأن بذلك، وخرجت، والتقت بالباب امرأة أخرى غانية فتبادلتا النظر والندم وتعانقتا وقد أجهشتا بالبكاء على ما اقترفتاه من المعاصى ثم اطفأت دموع الاستغفار نار الندم ، وتلفت ابليس فلم يجد الا الماخور مقفر خال، والنُدُل يرفعون الأوراق والأقداح من الموائد الخالية، وفى الصباح خرج إبليس بثياب البحر ليستمتع بمفاتن دنيا الناس الذين كانوا له زبانية ينصبون شرك الفتنة، أين الأجسام البضة والأزرع الغضة، والسيقان اللفاء، وأين العيون والزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض، لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عينى كصدفتين فى كومة رمل ، وفتاه تمشى مع أخيها على استحياء، فما تعرت من برنُسها حتى يسترها الماء، ورأس رجل سابحا يتنكب عن الطريق حتى لا تتأذى بنظراته الفتاة السبوح، وأحس إبليس فى حياته البشرية الوحشة والاضطراب والفراغ والضجر، والحرمان وأنه خلع شيطانيته ليهب للناس السلام والاستقرار! واطمأنت الحياة بالناس، وعاد كل فرد أمة وحده، لا عدو يلقى القنابل ويشعل الحرائق يدعوللتعاون والمقاومة ولا جماعة تتوق للسلطة، وتنتهز معاناة الناس فتزرع الفتن، وحين وجد المجتمع الأمن والسلام دب النعاس فمات الطوح، وخمد النشاط واستنام الناس الى القدر، ولم يعد ثمة عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم، وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان، وكسدت سوق الأقفال والرماح والدروع والسيوف ! وقال فتى لصاحبه: قد آن أوان مولد الولى العارف بالله...، فرد صاحبه مالنا وهذه الموالد وحسبى ان أعمر قلبى بذكر الله، فلا معصية ولا حاجة لوسيط بينى وبينه، وأمن صاحبه قوله لكن البدال والبقال وباعة الحمص والبزاز وصانع الحلوى ومدير الملهى لم يعرفوا لماذا كسد الموسم، وسكب الخمار خمره، وقال بعضهم أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا، فرد شيخ كبير: ذلك من عمل الشيطان..، وجلس قاضيان يتحاوران فى ملل، كيف تعيش الفضيلة وحدها على الأرض فتحرم الانسانية من لذة انتصار القانون على الرزيلة والمنكر الشر، ونظر شيخ من الزهاد فى صحيفة أعماله البيضاء بلا حسنة واحدة وقال فى حزن: لو أن عابدا قضى الدهر كله راكعا ساجدا ما عدل أجر شاب تتجاذبه شهوات الدنيا فيرده عنها الايمان والتقى فهو أبدا مأجور أجرا لا ينتهي! وتثاءب الشيطان "السابق" من الملل وهذه الدنيا التى تنام بعد يقظة وتسترخى بعد نشاط ..، وعاودته نزعة شيطانية عندما أطلت له من بين الاشجار حسناء وضاءة تمشى كما يهتز الغصن، فاطال النظر فازورت عنه معرضة مستكبرة فراح يستمد الحيلة من طبيعته الشيطانية فنفذ سهمه فى قلبها فنظرت إليه فما كان لها ان تراه وقد عاد شيطانا، فما نالت منه نظرتها لأنه لم يستطع ان يكون شيطانا ورجلا فى وقت واحد.. وانتهت قصة محمد سعيد العريان بما سجله التاريخ أن إبليس قد تاب مرة فردته لشيطانيته امرأة..! فكما أن وجود الشيطان ضرورة أوجدها الخالق لضبط إيقاع المجتمع البشرى لاستنفار قوى الخير والايمان للعطاء والعمل والتفاهم، فإنه ضرورة للدول كما هو للمؤسسات والأفراد، ومعظم الدول العظمى لم يخل مشوارها من وجود شيطان أو عدو يعوق مسيرتها ويحبطها ويحاول جرها لليأس والتخلف، وأمريكا وضعت مواطنيها دائما تحت تهديد الشيطان الرابض على حدودها أو القادم من الفضاء، وتحالفت مع جماعات الإرهاب لمواجهة الشيطان السوفييتى ثم صنعت من هذه الجماعات وبن لادن شيطانا يهددها فى عقر دارها أضافة لمحور الشر كوبا والعراق وإيران،لتنتعش مبررات الهيمنة وشركات السلاح! وما يحدث الآن فى مصر من احتقان وتحفز فى الشارع من الممكن أن يصبح عنصراً إيجابياً لاستنفار قوى المجتمع المصرى للتلاحم والتوحد والتحالف والائتلاف إذا ما انتبهت عناصر «التصلب» باسم هيبة الدولة، لانتهازية التجار وعصابات الميكروباص ومكائد جماعات الشرالإخوانية التى تستثمر أزمات الحياة للعودة للشيطنة التى ترتدى ثياب الدين . لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف