مثلت فترة حكم الرئيس السادات لحظة فارقة، وفاصلة فى تاريخ الثقافة المصرية، وبنية العقل المصري، بل الخصائص الوراثية لثقافة ذلك الانسان الذى عاش على هذه الأرض. فلأول مرة تشهد الثقافة المصرية تحولا فى أوقات النصر والرخاء؛ كانت تشهده فقط فى لحظات الحروب والكوارث الطبيعية، والأوبئة والمجاعات، واقصد بذلك التحول الذى مثل نقطة فاصلة، فارقة فى التاريخ الثقافى المصري، انفجار الأنا، وتغول الذات، وتوحشها على حساب المجتمع، والجماعة الوطنية، فأصبحت الأنا هى القيمة العليا، وهى الهدف والغاية، وهى الإله المعبود، حتى وإن حج صاحبها، واعتمر، وصام وصلي، فكل ذلك من أجل الأنا فى الحياة الآخرة، بعد أن أخذت كل ما تريد من هذه الدنيا، وتضاءلت الإلتزامات الجماعية، والعبادات الاجتماعية، وتعالت الأنا على المجتمع والوطن، واصبح الثراء، واللذة، والمتعة هى غاية وهدف كل حى فى بر مصر. ولفهم هذا التحول الثقافى نحتاج استقراء التاريخ، والتاريخ يخبرنا بأن مصر مرت فى تاريخها بفترات عصيبة؛ رصد منها المؤرخ تقى الدين المقريزى (المتوفى 1442م) فى كتابه كشف الغمة فى إغاثة الأمة ستا وعشرين مجاعة، وصلت قسوة ثلاث منها، إلى أن اكل المصريون لحوم البشر، ولكنهم ما أن تنتهى الازمة، ويأتى فيضان النيل يغسلهم؛ حتى يعودوا كما كانوا، ويتجاوزوا كل الآثار السلبية للفترات العصيبة. وفى وضعنا الحالي، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، وبداية سياسة الانفتاح الاقتصادي، ظهرت، ولأول مرة، ثقافة المجاعات، والأوبئة، والكوارث بصورة إرادية، اختيارية؛ لأنه لم يكن هناك أى دواعٍ اقتصادية، أو اجتماعية لظهورها، فأصبح المصريون يعيشون ثقافة المجاعات والكوارث، فى زمن الانفتاح والرخاء، يأكل بعضهم بعضا بصورة تفوق فى بشاعتها أكل لحوم البشر، لأن آكلى لحوم البشر يفعلون هذا وهم موشكون على الموت، اما ان تنشر الامراض الخطيرة، وتطعم ابناء وطنك اطعمة فاسدة ومسرطنة، وتغتنى على حساب فقرهم ومرضهم وبؤسهم فهذا سلوك اكثر شراسة من الإنسان المصرى الى كائن أنوى متمركز حول الأنا يدوس فى طريقه على كثيرين، أحيانا من أهله؛ من أجل مصلحة خاصة حقيقية، أو متوهمة، أو لذة عابرة، أو شهوة غرائزية بهيمية، هذا التحول الشديد صاحبته، حالة من التخدير الوطني، بحيث اصبح حب الوطن أغنيةً، أو كلمات جوفاء تقال لتبرئة الذمة، أو خداع الآخرين، أو استجلاب المديح والاستحسان منهم، مما ادى إلى ظهور حالة غريبة وعجيبة، فأصبحت مصر غير المصريين، وكأن مصر هى شيء، والمصريون شيء آخر، لا علاقة بينهما، فحب مصر لا يمنع من نهش لحوم المصريين، والمتاجرة بألامهم ومآسيهم، بل أحيانا تجد من حرفته الغناء لمصر، أو الغناء عليها هو اول من يدوس على المصريين فى طريقه، ولا يشعر بأوجاعهم وآلامهم، ولا يفكر فى ان يفعل اى شيء من اجلهم. تغول الأنا اصبح سمة الثقافة المصرية المعاصرة، واصبح سمة لصيقة بالشخصية المصرية، وان كانت هناك لحظات للتوحد والحركة الجماعية، كما فى 25 يناير و30 يونيو، ولكنها للاسف بين المصريين المطحونين، الذين يتشاركون البؤس، ويقتسمون المعاناة، أما أولئك الذين هم منا، ولكن خارج دائرتنا، فلهم عالمهم الخاص الذى يحرصون على حمايته، ولو استلزم ذلك التعاطف مع الآخرين، والحقيقة ان أى شخص من البؤساء والمطحونين يحمل نفس الأنا المتوحشة، ولكنه لم تأته الفرصة بعد لإطلاقها من عقالها. فى هذه اللحظة التاريخية، ومصر فى نقطة حاسمة من تاريخها، لن تستطيع ان تنطلق، وتعود الى مكانها ومكانتها إلا بتغيير ثقافى ثوري، يزيح تلك الطبقة الأنوية من الثقافة المصرية، ويعيدها الى جوهرها الانسانى الرائع، الذى كان يتشارك فيه الناس فى كل شيء: فى طبق الطعام، فى الفرح والحزن، يسعدون معا، ويحزنون معا، ولا يتمتعون بشئ لم يتذوقه الجيران، تلك هى مصر، وأولئك هم المصريون، فكيف نعيدهم؟ إن التخلص من التركة السلبية لثقافة الانفتاح والإثراء السريع، والتباهى على الأهل والجيران والتمتع بنظرة الحرمان فى عيونهم، إن التخلص من هذه التركة يحتاج إلى جهود مضنية من جهات اربع: الثقافة والإعلام، والازهر ، والتعليم بجناحيه العام والجامعي، وهنا يثور السؤال القاسي، هل هذه المؤسسات قادرة على فعل ذلك؟ وهل هى راغبة فيه؟ للاسف كان اول شيء فعله وزير الثقافة هو عكس ذلك تماما، فقد اثبت انه ابن بار لثقافة الأنا، فما ان اقسم اليمين إلا وانطلق يحقق مشروعه الأنوى الخاص، الذى عاش عليه لفترة طويلة، وهو مشروع التنوير الغربي، أو ان شئت فقل مشروع التغريب التنويري، وهو الوجه الآخر لمشروع الإخوان المسلمين، حيث أن كليهما لا يستطيع العيش دون حالة صراع اجتماعى بين الاصالة والمعاصرة، بين الاسلامية والعلمانية، ولا يستطيع اى منهما ان يرى المجتمع على ما هو عليه، فهو أصيل ومعاصر، وهو مجتمع مسلم يعيش فى العالم الحديث، ولكن السيد الوزير، اعتقد انه انتصر هو شخصيا على خصومه، فانطلقت الأنا فى نفسه ودخل فى عملية تصفية حسابات مع الازهر الشريف. والإعلام تسيطر عليه ثقافة الأنا حتى اصبحت عقيدته ودينه، فالسبق الصحفى الذى يحقق تميز الأنا اصبح اهم من الوطن والمواطنين، ونشر اى شيء بغض النظر عن آثاره صار هدفا لكل المجتمع الإعلامى من اجل أن تحقق الصحيفة والصحفى سبقا، حتى وإن دمر المجتمع واضر بأمنه واستقراره ومستقبله. والتعليم حالة أنوية اخري، فجامعة القاهرة التى تعانى من كل مظاهر التخلف التعليمي، واصبحت جامعات صغيرة وحديثة فى المنطقة تتجاوزها بقرون، تتبرع بعشرين مليون جنيه، وهى تشتكى قلة الموارد التى تؤهلها لأن تدخل التصنيف العالمى للجامعات، لأن التبرع فى هذه اللحظة يصب فى مصلحة الأنا. حتى الثوريون تحولت الثورة عندهم الى سبوبة لمصلحة الأنا وكأنها صفقة ثورية تضع الثورى على خريطة البرامج التليفزيونية، كلنا غارقون فى الأنا فمن يخرجنا من اعماقها؟ لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف