يشغلني إهمال كثير من الأيام المجيدة في تاريخ نضال شعبنا، وأقلق من دلالة عدم البهجة والاحتفال بأيام انتصار صنعها بشر أو وطن في مواجهة طغاة أو محتلين، وأحزن عندما تطوى صفحات ذكرى أبطال رحلوا عنا بعد أن لعبوا أدوارا مجيدة أو قدموا أرواحهم رخيصة لرفعة وطنهم. واعتقادي يتزايد بأن إهمال ذاكرة أي فئة أو جماعة أو أمة هو مقدمة لتقطيع أوصالها، فالأمم والجماعات لا تقضي عليها الأوبئة الفتاكة، بل تفقد نفسها وهويتها بسرقة تاريخها، وتموت بمحو ذاكرتها. واليوم أقف عند يوم مجيد من أيام الصحافة المصرية ونضال أبنائها، يوم من أيام مصر نفخت فيه من روحها وهبّت مع صحفيي مصر وكتابها ومفكريها دفاعا عن حريتها وتأكيدا لإدراكها أن حرية الصحافة إحدى الحريات العامة، وأن العدوان عليها هو عدوان على حق كل مواطن في المعرفة والتعبير والمشاركة. ما الذي جرى لذاكرتنا الجماعية حتى لا تتوقف اليوم عند العاشر من يونيو الذي اختارته الجمعية العمومية للصحفيين في العام 1995 ليكون عيدا سنويا لحرية الصحافة ويوم الصحفي الذي كنا نحتفل به سنويا قبل أن يصبح منذ عدة سنوات نسيا منسيا؟! ما الذي جرى لنتجاهل جزءا من نضالنا وانتفاضتنا ضد القانون 93 لسنة 1995 الذي أطلقت عليها الأمة كلها قانون حماية الفساد في معركة امتدت لأكثر من عام في الوقت الذي يواجه فيه إعلامنا اليوم تحديات خطيرة، ومواد الدستور الجديد المهمة التي انتصرنا لها، مازالت تنتظر من ينقلها لتكون حاكمة لواقعنا الإعلامي الذي مازالت تتحكم فيه قوانين استبداد نظام ثرنا عليه، وهناك من يحاولون أن يبعثوه من مرقده مما يتطلب منا الهمة وتنشيط الذاكرة؟! هل يمكن أن تغيب دلالة العاشر من يونيو 1995 الذي انتفضنا فيه، ورفعنا راية المقاومة والصمود والمواجهة، وتحدينا نظاما بلغ من الفساد ومن العداء للحرية مداه، وكان بإصدار هذا القانون قد بدأ يسطر أولى صفحات نهايته؟! هل يمكن أن يغيب العاشر من يونيو وقد أعطى البشارة فثار المصريون وقدموا تضحيات الدم، وقدموا «الحرية» في أولويات شعار ثورتهم في 25 يناير 2011؟! ففي 27 مايو 1995 تم استدعاء نواب مجلس الشعب على عجل، وخلال ساعات تم تمرير مشروع يعتدي على حرية الصحافة، بزعم «الحفاظ على حقوق وحريات الأفراد» ووقع عليه مبارك في الليلة نفسها، ونشر في الجريدة الرسمية صباح اليوم التالي.. وهنا انفجر الموقف وكانت نذر كثيرة قبل صدور هذا القانون تؤكد التربص بهامش الحرية المحدود، وأن صدر الفساد قد ضاق، وأن من تصور أنه يمنح قرر أن يمنع، وأن ما أعطاه بالسماحة سوف يأخذه منك بالغصب، وزحف الجميع على النقابة واتخذ مجلس النقابة قرار المواجهة والدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة في العاشر من يونيو، سبقتها مجموعة من فعاليات الاحتجاج، وغطى الصحفيون خلال ساعات جدران نقابتهم بالرايات السوداء، ونشروا قائمة سوداء بأسماء النواب الذين تزعموا تمرير هذا القانون، وأقاموا جنازة رمزية شيعوا فيها حرية الصحافة، وتوالت مبادرات الغضب واحتجبت الصحف الحزبية واعتصمت بكامل محرريها بحديقة النقابة وعقدت القوى السياسية والأحزاب مؤتمرا حاشدا بمقر حزب الوفد..وارتفع مؤشر درجة حرارة الحدث إلى الذروة ليقترب من الغليان، وتحول مبنى النقابة القديم إلى خلية عمل لا تستطيع أن تفرق فيها بين اجتماعات المجلس وحلقات النقاش التلقائية التي ضمت كل الأجيال الصحفية وكل ألوان الطيف السياسي والفكري والمؤسسي والمهني. في هذه الأجواء التي حفلت بعشرات التفاصيل، ووسط هذا الصخب الغاضب من الكتابات اليومية ومبادرات التضامن والتأييد من كل حدب وصوب، تذكرت صوتا مهماً وفريدا في المهنة وقيمة كبرى في الوطن لم نسمعه بعد وهو الأستاذ هيكل، وفكرت في مخاطبته وظني أن حماسي يغلبني، لكن لم يكن غير الحماس هو الذي يصيغ تفاصيل هذه اللحظات، فبعثت له برسالة على الفاكس بعد ظهر يوم الخميس 8 يونيو لا تزيد عباراتها على: «جمعيتنا العمومية غدا السبت.. مازلنا ننتظر كلمتك»، فاستدعاني صباح الجمعة إلى مكتبه وقال: «طلبت كلمتي وعدت إلى مكتبي في يوم عطلة لكي أكتبها، فلك ما طلبت وأنت مؤتمن عليها». وكانت كلمته التي ألقيتها خلال أعمال الجمعية في العاشر من يونيو حدثا مدويا أعطى وقودا وزادا لمعركة استمرت ما يزيد على العام ونقلت القضية إلى آفاق أرحب، وأصبحت من الأدبيات وتناقلت وسائل الإعلام كلمته التي جاء فيها: «..وأشهد آسفا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب، وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها». تفاصيل ويوميات هذه المعركة التي لم تكتب كلها بعد، قدمت نموذجا مهما.. جمعية عمومية انتفضت وتوحدت على هدف، ومجلس نقابة اتخذ المبادرة استجابة لإرادتها، ورأي عام وقوى سياسية حية ساندت ودعمت، ومفاوضات قادها مجلس نقابة الصحفيين على مدى عام انطلقت من يقين بأننا ندافع عن قضية عادلة وعن حق يتجاوز المطالب الفئوية، كنا الأقوى ونحن نلتقي رئيس الجمهورية خلالها مرتين، ومرات أخرى عديدة التقينا اثنين من رؤساء الوزارة ووزراء الإعلام والعدل ومجلس الشعب والشورى والداخلية ورئيس المجلس الأعلى للصحافة ورئيس مجلس الشعب وغيرهم من المسئولين. وسقط القانون وانتصر أنصار حرية الصحافة.. لكننا بعد كل هذا لا يمكن أن نسقط دلالة هذا الانتصار من ذاكرتنا في هذا التوقيت الفارق في تاريخ وطننا بعد الانتهاء من استحقاقين رئيسيين من خريطة الطريق، وفي ظل الأسئلة المطروحة على مستقبل إعلامنا في مواجهة التحديات التي تواجهها الدولة والثورة، وفي ظل هواجس كثيرة بدأت تتردد حول هذا الملف، خاصة في ظل فراغ أدى إليه تأخر ترجمة مواد الدستور الخاصة بالصحافة والإعلام إلى مشروعات قوانين يجرى الإعداد لها بمعرفة أصحابها لا في حجرات مغلقة بعيدا عنهم. نعم نحن في حاجة ملحة إلى تذكير أنفسنا قبل غيرنا بهذه الصفحة المهمة في تاريخ معارك كبرى سطرها الشعب المصري دفاعا عن حرية الصحافة، لأن بعض ما نسمعه الآن من خبراء ونشطاء وبعض سياسيي الفضائيات ومستشاري التضليل والنفاق حول الإعلام ومستقبله يثير الحزن والأسى ويعكس جهلا بالملف ويعمق الأزمة، لأن الذين لا يستوعبون دروس التاريخ لن يستطيعوا أن يتجهوا صوب المستقبل. لمزيد من مقالات يحيى قلاش