يذكر الأمس القريب ما قاله الرئيس بوتين: «إن انهيار الاتحاد السوفييتى كان اكبر كارثة جيوسياسية شهدها القرن العشرون». ويذكر ايضا ما قاله «إن من لم يأسف لسقوط الاتحاد السوفييتى فهو انسان بلا قلب ، ومن يريد اعادته هو انسان بلا عقل». وبين القولين مساحات شاسعة تحمل بين طياتها مختلف التأويلات التى نتناول من خلالها ظهور الاتحاد الاورواسيوى الجديد الذى وقع بوتين اتفاقية تأسيسه مع رئيسى كازاخستان وبيلاروس فى أسطانة مؤخرا. واخيرا تحقق الحلم الذى راود كثيرين فى عدد من ارجاء الفضاء السوفييتى السابق منذ اعلن رئيس كازاخستان نورسلطان نزاربايف فى قاعة احتفالات جامعة موسكو فى عام 1994 عن فكرة تأسيس اتحاد اورواسيوى يجمع رفاق الامس، فرضته التحديات الانية، وضرورات العصر، فى اعقاب احتدام علاقات روسيا مع بلدان الاتحاد الاوروبى والولايات المتحدة، بسبب الازمة الاوكرانية وما نجم عنها من احداث جسام، منها ضم القرم الى روسيا. وكان الرئيس بوتين وقع مع نظيريه القازاقى نزاربايف، والبيلاروسى الكسندر لوكاشينكو معاهدة تأسيس ذلك الاتحاد الذى اعرب عن رغبته فى الانضمام اليه قبل نهاية العام، كل من ارمينيا وقيرغيزستان، شريطة الموافقة على «ان الانضمام الى الكيان الجديد يظل فى اطار الحدود المعترف بها من جانب الاممالمتحدة». وقد جاءت هذه الاشارة لتحسم الجدل حول انضمام ارمينيا، ومدى الحساسية التى قد تنجم عن هذه الخطوة قبل تسوية نزاعاتها الحدودية مع اذربيجان. ومن المعروف ان ارمينيا تواصل حتى اليوم احتلال مساحات كبيرة من اراضى اذربيجان منذ اندلاع الحرب بين البلدين حول مقاطعة ناجورنى قره باغ فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وفيما اعلن مؤسسو الاتحاد انه يظل مفتوحا امام بقية البلدان، اعلن لوكاشينكو عن ان اوكرانيا كان يجب ان تكون بين اعضاء الاتحاد وهى التى سبق واكدت رغبتها فى ذلك، ابان حكم الرئيس الاوكرانى الاسبق ليونيد كوتشما، مشيرا الى ان شعبها قد يعاود «البحث عن سعادته بين صفوف هذا الاتحاد»، معربا عن امله فى الا يقتصر الاتحاد على الاقتصاد، ويتعدى ذلك الى المجالات السياسية والعسكرية والانسانية. ومن جانبه قال الرئيس بوتين إن «الاتحاد الاقتصادى الأوروآسيوى سيعمل بمبادئ عامة شفافة وواضحة للجميع، بما فيها أحكام ومبادئ منظمة التجارة العالمية». واضاف بوتين ان «الاتفاقية تفتح آفاقا رحبة للدفع باقتصاد بلداننا وزيادة رفاهية مواطنيها»، مشيرا الى ان الكيان الجديد يشكل أكبر سوق موحدة فى فضاء الكومنولث، ويملك إمكانيات صناعية وعلمية وتكنولوجية ضخمة، وموارد طبيعية هائلة». وقال ايضا ان هناك دولا كثيرة اعربت عن اهتمامها بالتعاون مع الاتحاد الجديد ومنها الهند واسرائيل، فيما اشار الى انه من المتوقع تعاون هذا الاتحاد مع فيتنام من خلال انشاء منطقة تجارة حرة هناك، الى جانب التعاون مع الصين. وكان نورسلطان نزاربايف قال فى كلمته التى افتتح بها قمة الاستانة ان البلدان الثلاثة المؤسسة للاتحاد تملك ما يقرب من ربع احتياطيات العالم من مصادر الطاقة والمعادن، الى جانب كونها اكبر مصدرى العالم للحبوب، وانها تملك من المواد الغذائية ما يكفى كل احتياجات سكانها. ولعل ما قاله نزاربايف بصدد الاكتفاء الذاتى لبلدان الاتحاد من المواد الغذائية وسيطرتها على ربع احتياطى العالم من الطاقة يمكن ان يكون ردا مباشرا على تلميحات بعض الدوائر الغربية تجاه احتمالات تعرض قازاقستان وبيلاروس لنفس العقوبات الغربية التى فرضها الغرب ضد روسيا، وهو ما سوف يستقطب اهتمام المراقبين خلال الاشهر القليلة المقبلة قبل موعد سريان الاتفاق اعتبارا من اول يناير 2015. وفيما ينطلق الاتحاد الجديد من انجازات كل من اتحادى بلدان التكامل الجمركي، وبلدان الفضاء الاقتصادى الأورواسيوى، يستعيد المراقبون ما سبق وقاله بوتين فى منتدى فالداى السياسى الاجتماعى فى العام الماضى حول ان بلاده تعمل من اجل تاسيس «الاتحاد الأورواسيوي» دون اغفال ما ارتكبته الدول الاوروبية من اخطاء لدى تشكيل الاتحاد الاوروبى وفى مقدمتها مسألة توحيد العملة. ولذا فقد اتفق مؤسسو الاتحاد حول تأجيل مسألة توحيد العملة، الى حين توحيد السياستين الاقتصادية والمالية، وإن كانت بنود المعاهدة التى جرى توقيعها تنص على حرية حركة السلع والبضائع والخدمات ورءوس الاموال والقوى العاملة دون اية قيود او عراقيل جمركية او حدودية الى جانب التزام البلدان الاعضاء بتنسيق سياساتها فى مجالات الطاقة والزراعة والصناعة والنقل والعلم والتعليم. ومن اللافت أن الاعلان عن توقيع وثيقة تأسيس هذا الكيان الدولى الجديد، جاء فى اعقاب الاتفاقيات «التاريخية» التى زاد عددها عن الاربعين بين روسياوالصين فى وقت سابق من شهر مايو واعتبرتها موسكو افضل رد على العقوبات الغربية بوصفها اضافة هامة الى رصيدها الاقتصادى قبل السياسى بما يجعلها تقف على ارض صلبة فى مواجهة اى تحديات غربية. على ان هناك من الشواهد ما يقول ايضا بمصلحة الصين المباشرة من تشكيل هذا الاتحاد وهو ما اعربت عنه فى افصاحها عن الاستعداد للتعاون مع بلدان هذا الكيان الاقتصادى الجديد وهو الذى يعتبر سوقا كبيرة تمتد بطول طريق الحرير التاريخي، قد يكون نواة لبناء تحالف اوسع نطاقا متنوع الاهداف بما يمكن ان يساهم فى تعزير الفكرة التى سبق وطرحها بوتين حول ضرورة انتهاء اسطورة عالم القطب الواحد والتحول نحو عالم متعدد الاقطاب. ورغم تباين التوجهات بين البلدان التى اعربت عن اهتمام بالتعاون ومنها الهند واسرائيل حسبما كشف بوتين، فان هناك من يقول ان الاخيرة قد تكون فى حاجة اكثر الى الاستفادة من مواقع موسكو لدى بلدان المعاهدة الجديدة من اجل كبح جماح خصومها التاريخيين ومنهم سوريا وايران، بما لهما من علاقات طيبة مع روسيا ، فضلا عن حاجة الاخيرة الى بناء علاقات اكثر تأثيرا، استنادا الى الكتلة البشرية السكانية الكبيرة فى اسرائيل من الناطقين بالروسية من ابناء الاتحاد السوفييتى السابق. ومع كل ذلك، فلا احد ينفى احتدام الخلافات بين الاصدقاء حول جوهر التحالف الجديد وصلاحياته، وهو ما كشف عن بعض جوانبه يورى اوشاكوف مساعد الرئيس بوتين للشئون الخارجية، الذى قال قبيل توقيع المعاهدة بوجود بعض النقاط غير المتفق عليها، وإن لم يكشف عن جوهرها ما كان سببا على ما يبدو، لاستباق التوقيع على المعاهدة باجتماع قصير جرى وراء الابواب المغلقة بين الرؤساء الثلاثة، وهو الاجتماع الذى أسفر وحسب تصريحات ايجور شوفالوف النائب الاول لرئيس الحكومة الروسية الى وكالة انباء «ريا نوفوستي»، عن ان تصفية كل الخلافات قبل التوقيع. اما عن ماهية هذه الخلافات فقد كشف عنها صراحة صمد اردوبايف وزير خارجية قازاقستان الذى قال ان بلاده اصرت على ان تخلو المعاهدة من اية نصوص تشير الى اية قضايا غير اقتصادية، مثل الجنسية الموحدة، والسياسة الخارجية، والتعاون البرلماني، ومجالات الجوازات والتأشيرات، والحماية المشتركة للحدود، والرقابة على الصادرات، وهو ما يثير الكثير من الدهشة والتساؤلات حول ابعاد هذه الخلافات، على ضوء ما كان لوكاشينكو رئيس بيلاروس اعرب عنه من آمال فى الا يقتصر الاتحاد لاحقا على القضايا الاقتصادية وان يشمل القضايا السياسية والعسكرية والانسانية. وثمة من يقول ان المخاوف التى انتابت كازاخستان من احتمالات عودة موسكو الى سابق هيمنتها «السوفيتية» كانت وراء تلكؤ كازاخستان فى الموافقة على توقيع المعاهدة بصورتها التى طرحتها روسيا، تحت تأثير غير مباشر من واشنطن والدوائر الغربية التى سبق وغضت الطرف عن تجاوزات قيادات عدد كبير من بلدان الفضاء السوفييتى السابق فى مجال الديمقراطية والفساد، ولا سيما فى بلدان آسيا الوسطى، وهو ما لا احد يقول ان موسكو بغافلة عنه!.