من اخطر الدعاوي التي ينشرها المتطرفون في الدين, دعوي التعارض بين التدين والوطنية, وهي الدعوي التي لو نجحوا في تعميم الاقناع بها كانت الثمرة خلق انشقاق وجداني في نفوس أفراد الشعب بين الولاء للدين والولاء للوطن ,وهم يستغلون بعض الأحاديث النبوية التي بتروها عن سياقها ولم يعوا مناسبتها ثم أخذوا ينشرون سوء فهمهم بين من غرروا بهم من الشباب كالحديث الذي يروي أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية و الرجل يقاتل شجاعة أي ذلك في سبيل الله؟ فأجاب : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وحين أخبر عن الرجل الذي كان يقاتل في غزوة أحد مستبسلا في الدفاع عن المدينة لا عن الدين بأنه في النار فقصروا مفهوم» كلمة الله» علي كلمة التوحيد في صورتها اللفظية ولم يفهموها بمدلولها الواسع الذي يشمل الدفاع عن كل حق وعدل في مواجهة كل باطل وظلم مع ان « كلمة الله» في السياقات القرآنية لها معان متعددة. وقد جمع النبي بين دعوة الدين وحب الوطن حينما ودع مكة وهو مهاجر الي المدينة , وحينما أبرم وثيقة المدينة بعد ان اتخذها موطنا لهجرته وهي تلك الوثيقة التي اجتمع اطرافها علي قدم المساواة في الحقوق والواجبات وفيهم المهاجرون والانصار وفيهم اهل الكتاب من قبائل اليهود وفيهم وثنيون وهم قلة لا يؤبه بهم ومع ذلك دخلوا في الوثيقة طرفا له حقوقه وعليه واجباته ولا شك أن صنيع النبي هذا قدوة ليعيه المسلمون من بعده فالوطن يجب ان يستقر لضمان الحياة الآمنة فيه ويجب ان تتآزر القوي علي حمايته من العدوان دون نظر الي اختلاف الملل و المعتقدات و القرآن الكريم يؤكد في ايات متعددة علي حب الأوطان وينبه الي أن من مبررات القتال أو من موجباته صد المعتدي الذي يخرج الاٌمنين من أوطانهم , ويعبر القرآن عن الوطن بلفظة أخري هي « الديار» : «وقد اخرجنا من ديارنا و أبنائنا» البقرة 246 «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق « الحج 40 وقد حرص دعاة جماعة الأخوان وبعض الذين يدعون السلفية علي محو مبدأ « الوطنية « مستبدلين به مبدأ « الدين « أو « الاسلامية « وكأن الدين والوطنية نقيضان لا يجتمعان ومع ظهور ذلك جليا في تصريحاتهم و اعمالهم واستنصارهم بغير المصريين علي المصريين فإن الكتابات المبكرة لمؤسس جماعتهم لم تجرؤ علي التصريح بهذه القطيعة بل كانت تذكر كلمة «الوطن « علي استحياء ولكن القارئ المدقق يفطن الي مابين السطور ويلمح في ثنايا العبارات مايشي بأنه كان ينقل خطاه في ترفق و تدرج ليصل الي فكرة « الدولية « أو « العالمية « علي حساب الوطنية حتي جاء المرشدان الأخيران فأعلناها صريحة لا مواربة فيها واستطاع دعاة الاخوانية ومن تبعهم أن يقنعوا طوائف من أغرار الشباب بأن التعلق بالوطن ليس من الجاهلية فحسب بل هو في نظرهم عقيدة وثنية لأنه عبادة للجماد أي الأرض و التراب وسمي هؤلاء الشباب الأغرار أنفسهم بالجماعة الإسلامية واتخذوا لهم شارات وملابس يتوهمون أنهم بارتدائها يعيدون عهد الاسلام في القرن الهجري الأول برغم انها تقليد لملابس الهنود الذين كانو يرحلون بين دول العالم الأسلامي تحت أسم جماعة التبليغ و الدعوة وكانت مجموعات منهم تفد الي مصر منذ أوائل الستينيات ليبلغوا دعوة الأسلام في بلد الأزهر !! وزاد الطين بلة قيام شيخ مصري مكفوف فاتخذ له مسجدا وانشأ جمعية في احدي المحافظات القريبة من القاهرة وكان ينشر في خطبه و مؤلفاته فكرا شديد التعصب موصوما بضيق الأفق ونجح بعض النجاح في تأليب الشباب المتدين علي أوطانهم وعلي مدرسيهم في المدارس و الجامعات و أثار العداوات بين طوائف الدين حتي عرف عالميا بأنه من أئمة التدبير للتدمير وقد احاط به أو الشاب من العوام وأشباه العوام ولا يزال في مصر شباب وكبار مخدوعين بهذه الأفكار معتقدين هذه البدعة الغريبة بدعة التعارض بين التدين والوطنية بينما لا يرون اي تعارض بين الدين و السياسة بل هجر كثير من دعاتهم مجالس التعلم الديني و انهمكوا علي غير خبرة في غمرات السياسة باسم الدين فأفسدوهما معا وحمل العامة أخطاءهم الجسيمة في السياسة علي الدين فضلوا و أضلوا. لكني أتساءل : لماذا ينزلق شاب جامعي يتعلم مناهج البحث العلمي الي اعتناق مثل هذه الأفكار التي تأتيه جاهزة دون ان يفحصها علميا ثم يندفع مع من هم أدني منه تفكيرا اندفاع القطيع ويرتكب اعمال التخريب الاجرامية ؟ والجواب ان هذا الشاب قد يكون دارسا مقررات علمية ولكنه لم يعرف حقيقة العلم ولا روحه ولم تتشرب نفسه أخلاق العلم ولم يتكون ضميره بقيمه ولم يتدرب علي النظر لأي مشكلة عقلية من وجوه متعددة فصار أحادي التفكير وذلك لأننا قد مضت علينا حقبة بائسة لاندرب فيها الشباب علي التفكير النقدي و استقلال الشخصية وحرية الفكر و التعبير ولا نربي الأطفال علي قيم التعاون و العمل بروح الفريق لتنمو في وجدانهم بذرة الشعور بالمسئولية و الانتماء الوطني والوازع الديني في وقت واحد. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل