رئيس الأسقفية يهنئ الرئيس السيسي وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى    محافظ المنيا يستقبل المهنئين بعيد الأضحى المبارك    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    مشايخ وعواقل القبائل يهنئون محافظ شمال سيناء بعيد الأضحى    صندوق تحيا مصر يطلق مبادرة «أضاحي» لتوزيع اللحوم على الأسر الأولى بالرعاية    نادي الأسير الفلسطيني: 9300 معتقل في سجون الاحتلال الإسرائيلي    «القاهرة الإخبارية»: انفجارات في رفح الفلسطينية.. وقصف إسرائيلي على النصيرات    تصفية محتجزي الرهائن في مركز الاحتجاز في مقاطعة روستوف الروسية    قمة السلام الدولية حول أوكرانيا تبحث كيفية تجنب «كارثة نووية»    "نيمار" الأقرب لحل أزمة الظهير الأيسر في الزمالك أمام المصري    "ابني متظلمش".. مدرب الأهلي السابق يوجه رسالة للشناوي ويحذر من شوبير    «العيد أحلى» داخل مراكز شباب «حياة كريمة» في البحيرة |صور    ضبط المتهم بالتعدي بسلاح أبيض على كلب بحدائق القبة    التحالف الوطني يوزع ملابس وأقشمة وحلوى على المصلين في 3 محافظات    مصرع شابين والبحث عن اثنين آخرين إثر سقوطهم بسيارة في ترعة المنصورية بالدقهلية    وفاة سيدة مصرية أثناء أداء مناسك الحج    فيلم أهل الكهف يحقق المركز الرابع في شباك التذاكر بأول أيام عيد الأضحى    في عيد ميلاده.. بيومي فؤاد نجومية متأخرة ومقاطعة جماهيرية    خبير تغذية يقدم نصائح لتناول لحوم عيد الأضحى دون أضرار    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    بالتفاصيل مرور إشرافي مكثف لصحة البحر الأحمر تزامنًا مع عيد الأضحى المبارك    شاعر القبيلة مات والبرج العاجى سقط    قوات الاحتلال تعتقل 3 مواطنين جنوب بيت لحم بالضفة الغربية    كولومبيا يضرب بوليفيا بثلاثية قبل كوبا أمريكا    ريهام سعيد: «محمد هنيدي اتقدملي ووالدتي رفضته لهذا السبب»    نصائح منزلية | 5 نصائح مهمة لحفظ لحم الأضحية طازجًا لفترة أطول    مصدر من اتحاد السلة يكشف ل في الجول حقيقة تغيير نظام الدوري.. وعقوبة سيف سمير    إيرادات Inside Out 2 ترتفع إلى 133 مليون دولار في دور العرض    أدعية وأذكار عيد الأضحى 2024.. تكبير وتهنئة    «النقل»: انتظام حركة تشغيل قطارات السكة الحديد ومترو الأنفاق في أول أيام العيد    رئيس دمياط الجديدة: 1500 رجل أعمال طلبوا الحصول على فرص استثمارية متنوعة    الأهلي يتفق مع ميتلاند الدنماركي على تسديد مستحقات و"رعاية" إمام عاشور    كرة سلة.. قائمة منتخب مصر في التصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس 2024    وزير الإسكان: زراعة أكثر من مليون متر مربع مسطحات خضراء بدمياط الجديدة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    النمر: ذبح 35 رأس ماشية خلال أيام عيد الأضحى بأشمون    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    برشلونة يستهدف ضم نجم مانشستر يونايتد    بالصور.. اصطفاف الأطفال والكبار أمام محلات الجزارة لشراء اللحوم ومشاهدة الأضحية    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    إصابة شاب فلسطينى برصاص قوات الاحتلال فى مخيم الفارعة بالضفة الغربية    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى داخل ساحات الأندية ومراكز الشباب في المنيا    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    ارتفاع تأخيرات القطارات على معظم الخطوط في أول أيام عيد الأضحى    بالصور.. محافظ الغربية يوزع هدايا على المواطنين احتفالا بعيد الأضحى    التونسيون يحتفلون ب "العيد الكبير" وسط موروثات شعبية تتوارثها الأجيال    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    انخفاض في درجات الحرارة.. حالة الطقس في أول أيام عيد الأضحى    إعلام فلسطينى: 5 شهداء جراء قصف إسرائيلى استهدف مخيم فى رفح الفلسطينية    ما هي السنن التي يستحب فعلها قبل صلاة العيد؟.. الإفتاء تُجيب    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    كأنك في الحرم المكي، مشهد مهيب لصلاة عيد الأضحى المبارك في الأقصر (فيديو)    العليا للحج: جواز عدم المبيت في منى لكبار السن والمرضى دون فداء    لإنقاذ فرنسا، هولاند "يفاجئ" الرأي العام بترشحه للانتخابات البرلمانية في سابقة تاريخية    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت وتوجه تهنئة للجمهور    دعاء لأمي المتوفاة في عيد الأضحى.. اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المغارة

عندما أدافع هذه المرة عن القمر: فذلك لايعنى إدانة الشمس، ورأس الحكمة مخافة الله والدنيا ليست مضمونة، وكل صباح يأتى بلا رزايا فهو هدية من الرب تفرح قلب المؤمن وعين السماء وباطن الأرض
ولن يحدث لك خدش ولن ترتبك السماء بالرعود ولن تنتفض الأرض بالزلازل دون إذن الجبار، فالعبد عاجز والسماء حنونة والأرض رحيمة صدقنى، ولايبقى لنا فى النيابة سوى العمل الصالح والتمعن فى السماء وتعمير الأرض، فالانسان موعظة متحركة لكن السماء والأرض موعظتان ثابتتان، ومن أراد له الله الستر فلن يستطيع المخلوق أن يؤذيه، وما أراده الله للسماء والأرض فلن يستطيع أحد أن يغيره، والتائب من الذنب كمن لاذنب له وكالسماء الصافية والأرض المنبسطة.
لذلك تظل الكلاب ضالة تعقر الناس فى النجع، ولما يصرع (السماوى) كلباً نتعاطف مع الكلب ونسب القاتل، والادهى أن نصف قتلى نجعنا لقوا حتفهم مقابل الاعتداء على كلاب الآخرين، كذلك تظل الأرض جافة متشققة جرداء لاتنبت غير الجفاف، وعندما يهطل المطر ويصير سيولاً غارقة، نتعاطف مع الأرض لأن معظم القتلى لقوا حتفهم فى السيول.
فى الحقيقة فإنى لا اعرف كيف اختفى القمر من السماء، لكنه من المؤكد اختفى بطريقة لا تخضع بتاتا لهذه الأقوال، بل وأضف أن يوم اختفاء القمر كان يوم تشيب له الولدان وتهتز له الجبال.
لقد فاجأنى الأمر كما فاجأ الكثير من الكائنات المهتمة بالحفاظ على القمر، فقد داهم نجعنا الظلام، مما فتح باب المناقشة فى بعض الأمور كادت تقلب السماء على الأرض،
ففى غروب ذلك اليوم القديم تأخر القمر عن الظهور، كانت السماء صافية لا أثر فيها لغيم أو ضباب أو دخان أفران أو مدافع أو رائحة شياط أو شكوى مظلوم أو روح صاعدة لبارئها أو أهة جريح، وخشى العمدة أن يكون قد أصاب القمر ملل أو كلل أو غضب أو مرض عاقه عن الظهور فى الميعاد، فتساءل، وعندما يتساءل العمدة يجب الوصول الى إجابة، قالت الريح: أنى لى أن أعرف لذلك سببا وقد أطلقت فى كل الأفاق مزمجرة دون أسباب، وقالت النخلة: امنحكم رطبا وجريدا وخمرا لكنى كما أمرت لا انحنى ولا أجيب عن سؤال، وقالت القطة: أجيبكم يا اصحاب نعمتى ومأوى أولادى لو أن القمر كان هواما أو جراداً أوسحيلة أو واحدا من الفئران، وقال الكلب: أكون نابحا دون سبب أو رفيقاً وباسطا قدمى أو عضاضا أو سؤالا دون إجابة، وقال الحمار: أكون حمالاً للأسية أو نهيقا فى وجه شيطان أو نعتاً لغبى ولكنى لا افهم السؤال، وقال الحجر: أعطونى الأمان، قال العمدة وهو يشعل سيجارة: الأمان لك يا غليظ القلب، قال الحجر: قضيت فترة مرتكزاً لشيطان وشيطانة، وسمعته والأمان لى فى ذروة انتشاء يهمس لها:مولانا إبليس اغتال القمر وفتت رأسه وثقب صدره وأظلم سماء وأرض النجع كيداً لها، وإنكم يمكنكم أن تزرعوا وتحرثوا وتشونوا الغلال فى الصوامع وتثقبوا الجبال وترعوا الإبل والشاه وتحفروا الترع وتقيموا الجسور وتدفنوا رءوسكم فى صدور نسائكم وتطلقوا الرصاص والزغاريد فى الأفراح ومواسم الحج وتذرفوا الدموع والصراخ والآهات على الأموات والفواجع، لكنكم تظلون جاهلين بما لايصلح فيه كل ذلك، فالمعرفة كالرغبة والتواصل والنشوة: هبة وموهبة لايفيد فيها زارع أو صانع أو عمدة أو ملك، فأمر الحاج أحمد عبد اللطيف وهو يضبط عمامته: أن يفتت الحجر وأن تمزق أوصاله وتقطع أطرافه أن لم يفصح، قال الحجر لائذا فى أحضان صخرة: عندما يتوقف القمر عن الظهور فأعلموا يا قادة وأهل النجع أنكم مقبلون على مالاتحبون، فقد قال الشيطان للشيطانة بعد أن قضى متعته: ذلك النجع، مثل ذكور الماعز سينتهون مخترقين بسيخ من حديد ويصبحون لذة للسائحين والسكارى والمحرومين، ومثل الحمير: سينتهون ساحبين عربات الكارو والنفايات، ويعلق رجاله من محاشمهم ونساؤه من أثدائهن، أن لم يصلوا الى تلك المغارة، التى ما رأها بشر ولم يفتحها كائن بأصبعه أو سيفه أو جيوشه أو كلمة سر، ولم يصل اليها حافر جواد أو خف جمل أو جحافل نمل، ولم تكن ملجأ للثعابين والوطاويط والهاربين ولم ير وجهها أشعة الشمس من قبل ولاتهلو بها الريح، فكتم العمدة غيظه وهو يلقى عقب السيجارة ويدهسه بمركوبه: أن يزيد، قال الحجر مرتجفا: لقد رحل الشيطان والشيطانة باحثين عن عبيد الله كى يحملوهم بالذنوب والخطايا، فزعق المقدس سمعان هامساً: وأين هذه المغارة يا ابن الصخرة الصلدة؟ قال الحجر: أنا لا ابرح مكانى، صرخ العمدة وهو يشعل سيجارة أخرى: مزقوا أوصال الحجر ورملوه، قال الخفراء وكيف نرمله ياحضرة العمدة: قال العمدة: حطموه حتى يصبح رمالا.
ويعد مهزلة الفتك بالقمر وتلك المناقشات، أمر إبليس أبناءه وأولاده، بجمع كل الخطايا والذنوب، وأمرهم بأن يهاجموا النجع، وجلس إبليس فى احدى الجزر وبدأ فى دق الطبول التى أيقظت الكون..
ففى الصباح الخامس القديم من الشهر السادس: استيقظ النجع على ضجيج واختراق ومداهمة، اجتاح أبناء إبليس النجع، حطموا الصوامع وأصداغ الأبواب وردموا الآبار وسفكوا دم الشياة والارانب وقاموا بتشريم آذان الرجال وحلقوا رؤوسهم وعبثوا فى منافذ أجسادهم وبورزات أبدانهم، ثم جرجروا فى أعقابهم البواسل والنساء والاطفال واشعلوا النيران فى النخل وصوامع القمح وبطون الابقار والكلاب وظل النجع ينوح ويولول والبيوت تفح بالارتعاش وجفت الأوانى وفرغت الصوامع من الغلال والتمر والسمن والعسل والدهن، وتعالى الصراخ الملتاع المتناثر، وتساقطت النوافذ فوق الأبواب والرماد فوق المياه والعجائز فوق الأطفال، واستحال النجع إلى دروب متزاحمة تنفث الخوف والدعاء.
ودارت النساء فى النجع جريحة تلطم وتصرخ وتهيل التراب، والنجع يتقلص ويرتعب ويهذى ويعلق الدم وحبوب الرمال وأوراق الشجر الجافة، وابتلعت السماء شمسها وفحت بالعفن والوحل والاعاصير، وكان الجرحى والمرعوبون يتأوهون ويتحسسون وينحون، وظلت السحب تجمع النجوم وتدفعها الى مكان آمن، وتحركت الرمال وأمتدت حتى بلغت حلق الريح، وبدأت الثقوب تخترق جسد السماء، والتشققات وجه الأرض، واهتزت الجبال وبدأت الصحراء تعوى سراباً، وجفت مياه النهر وامتلأ بالحشائش الشيطانية، وانهارت مقامات الأولياء ومآذن المساجد وجدران الأديرة وأصاب الضمور النخل وتساقط شعر النساء وأصاب الرجال الصلع والأطفال القراع وجف حلق المغنين والمنشدين وتفحمت الحقول وبدأت الابقار فى القفز على الحمير، وأرض النجع تمتلئ بفحيح الثعابين وعواء الذئاب، وسماءه بنقيق الغربان والبوم، وانتشر المجاذيب والدجالين فى انحاء النجع وامتلأ النجع بأبناء إبليس، وبدأ الصراخ الحزين يملأ النجع حزناً على القمر:
القمر .. القمر يا أبناء النجع..
وقاوم الصيف ألف شتاء واستسلم الربيع والخريف للظلام، والظلام جاثم ويحوم بالكل والخراب يخترق الجميع كالنيران وارهقت الشمس من العمل طوال اليوم، وبلم يلبث أن بدأت تتلكأ وتعمل يوما وتغيب أياما.
فى الماضى، عندما كان الفعل يسبق الكلام، والتلاميذ يخشون ظل المدرسين، فى الماضى، عندما كانت الأمهات ترضع أطفالهن سنتين كاملتين من أثدائهن، والفتيات يتزوجن قبل العشرين، والعشاق يناجون القمر، فى الماضى، عندما كانت المصانع والسواقى تدور والصوامع والاجران تمتلئ بالمحاصيل وتدفئ بالخير والبركة، فى الماضي، عندما كان الصغير لايستطيع أن يجلس أمام الكبير، وأبواب الجيران مفتوحة تستقبل أطباق العاشوراء وكفوف الضيوف، فى الماضى، عندما كان لليتيم ألف أب ومليون أم والقطن يدفئ الأجساد والقمح يملى البطون والأديرة ملجأ المعذبين والمساجد مهوى افئدة الخاشعين، فى الماضى، عندما كانت المساجد تملأ فى الفجر مثل الجمعة والعيون تتظلل بالأهداب، وشهرة الزواج قبل النسل غير المقدس، فى الماضى عندما كان لكل عائلة كبير ولكل حارة فتوة ولكل نجع عمدة ولكل بلد ملك.
فى ذلك الماضى البعيد ماكان هناك مخلوق على وجه الأرض، يستطيع أن يأخذ حفنة من تراب القمر، أو يتجرأ ويغتال القمر، ويعرض السماوات للظلام والأرض للوحل والرءوس للقراع والصلع وقباب الأولياء للانهيار والرجال للجذع.
تباً لإبليس الذى لا أعرف له أم..
تباً لإبليس الملعون ابن الملعون..
تباً لإبليس وذنوبه وخطاياه ومكائده..
تباً لإبليس المغرور ابن المغرور..
تباً لإبليس وابنائه وأحفاده.
من الصعب الاحتكام إلى الدليل الذى اتخذه النجع فى معالجة مسائله اختفاء القمر، فعندما تضع نسبا غير مؤسس فى أرض غير ممهدة سوف يصنع تاريخا هاشا لا يستطيع الصمود أمام احقاب التاريخ العظمى..
***
وكى يعود القمر للظهور وينقشع الظلام عن النجع، كان علينا أن نتحد ونلقى تلك المسائل التافهة فى بئر ونردم عليه، كما نبهنا شيخ الزاوية الغربية ذو الخبرة المدوية فى معالجة تلك المسائل.
***
ففى إحدى الليالى السوداء حلف العمدة الجديد (وهو غير العمدة السابق، والذى قضى نحبه أثناء محاولة معالجة بعض المسائل التافهة قبل القائها فى البئر) قال وهو يشعل عود ثقاب كى يشعل الغليون الخاص به، سنفك إسار القمر بنفس اليسر الذى ندمغ به اصداغنا وشمنا، فقلقنا من هذا الكلام خوفا من أن يكون قد أصاب العمدة مس من الجنون أو عدم إدراك وفهم لما يحدث، فأشعل عود ثقاب آخر، وقال مؤكدا : سنذهب لحلال العقد.
وفى الصباح المظلم، حملنا فوق دوابنا ورءوسنا فولا وقمحا وحلبة وعدسا وماعزا حيث توجهنا إلى مقام سيدنا العارف بالله كاتم سر الخلق حلال العقد الواثق بالسماوات الشيخ حافظ ابن إسماعيل.
الذى يمكنه أن ينطلق فى منتصف الليل فيزور المسجد الاقصى ويؤدى صلاة الفجر فى المدينة المنورة، ويقابل واحدا من أبناء الشام الذين يعملون فى مكة وواحدا من أبناء مصر الذين يعملون فى الرياض فى الصباح المبكر، ثم يعود إلى خلوته قبل ظهور الشعاع الأول من الشمس.
وفى الصباح المظلم التالى، وما كدنا نعبر النهر الجاف، حتى راعنا أن نرى المقام من بعيد، وقد خرج منه شعاع نور للسماء، وما كدنا نقترب من المقام، ونلقى المرابط امامه، حتى وجدناه مقاما نظيفا ورائعا وجديدا، وعلى أركانه الأربعة ترفرف الاعلام الخضراء.
ولقد جاء دورنا فى مقابلة حفيد الشيخ ووارث سره فى الظهيرة المظلمة، فتقبل منا هدايانا بامتعاض، لكن وجهه الأبيض الرائق كان يشع نورا وبركة وعذوبة وايمانا، فلامنا مرتين ووبخنا ثلاث مرات، ثم قبل مناديلنا وأجزاء من ذيول جلابيب نسائنا، وظل يستجوبنا ويحاصرنا بالاستفسارات والتوسلات، كان تقيا صادقا فظللنا بين يديه مغمورين بالدفء والأمان والبراءة، حتى استطاع كرمه الله أن يضعنا امام سر مهزلة غياب قمرنا، آه وكانت الباحة الفسيحة المنيرة مغموسة فى رائحة الملكوت العنبرية حينما همس ولينا الحبيب فى حزن مرهق.
آثامكم ملأت القلوب... وذنوبكم عبثت بالأرحام.. وامتطيتوا الباطل..
فأرخينا رءوسنا وبكينا، فجذب اعناقنا وقال غاضبا فى شدة كرمه الله : إن القمر المسكين اغتيل، فقد كان يلهو غرب السماء مع بعض النجوم وقمر صغير وطفليه وفجأة اظلمت السماء بعنف فاقشعرت الارض قلقة، وبدأت الرعود والبروق والعواصف، ووقف ابليس الملعون على حافة السماء، نظر اليه القمر، وهو يقبل نجمة، خلع ابليس عباءته عن جناحه الايمن وصوب ذنوبه وانهال بالخطايا فى الرأس، صرخ القمر الصغير وصغيراه رعبا وتفرقت النجوم هاربة، انشرخ القمر وحاول الهروب نازفا، فجذبه إبليس من ضوئه ورفعه وألقاه على قمم الجبال، رص دفعة أخرى من خطاياه فى صدره، ظل القمر وصغيراه مشدهوين مفتوحى الفم والعيون ثم سقطوا خلف الشمس.
وجذبنا من آذاننا موبخا وقال: هكذا تم القضاء على قمركم، تحول من كائن يهدى وينير ويتهلل ويبتسم ويبتدر ويتشاكس مع النجوم ويعابث سنون وسفوح الجبال ويلثم مياه البحور ويرشد القوافل وعابرى السبيل والضالين، ويتسامى سابحا بين الغيوم يضئ الوهاد والوديان والصحارى ومكامن العشاق والهاربين، يخترق الشقوق كى ينير جحور الثعابين وقلوب اليأس والمجرمين ويرشد قوافل النمل ويلهو على ظهور السحالى، يقوم بعد المغرب وينام فى ندى الفجر... إلى جثة مفتتة الرأس مثقوبة الصدر يجتمع حوله هذا القمر الحنون السماء والنجوم والبحور والصحارى والغابات والجبال والتلال والآبار باكين ملتاعين مشويين الفؤاد غاضبين منتحبين معفره رءوسهم بالوحل والعار.
وانهمرت دموعنا فى حجر الشيخ الجليل، كرمه الله، فجذب أعناقنا وألقى فى وجوهنا بلفافة مستديرة ظلت تتقافز فى الباحة حتى انفرج قماشها فإذا بداخلها جزء من القمر يرتعش ويشع نورا.
فذهلت العيون تطالبه : بالحل والعمل، فابتسم متنهدا بالطيب والعطر وقال: قمركم سوف يعود، فانتصب الآذان وشدت الاعناق وبحلقت العيون وفتحت الشفاه، فعاد وأكد أن القمر سيعود، عندما تعثرون على تلك المغارة، فقال العمدة مرتجفا : وأين تلك المغارة يا حلال العقد وشافى العقول ومطهر القلوب من الآثام : فقال كرمه الله : انها هناك خلف الجبال الحمراء، هناك فى أعماق الأرض السوداء، سوف تجدونها، فقال المقدس سمعان : وماذا بها، فضحك بحكمة كرمه الله وقال: إنه يشع من وجهها نور أقوى من الشمس، وحكمة أعظم من السماء، ولقلبها يحمل صمت التاريخ، وعلاجها أشفى من التمائم، ودهاؤها أمكر من إبليس، وحضنها ادفأ من الزوجة، وحنانها أقوى من الجدة، وغذاؤها أطعم من لبن الأم، وهدوؤها كهدوء حواء الساعية للمتعة، وبها السر والماضى واستعداد الحاضر للقادم، وبها بحور المعرفة، وسيول الحكمة، ووصايا الرب، ومواعظ الانبياء والأولياء، ومواد القانون وعيون الدستور، فهى الطاهرة الحانية ما رفضت تائها، أو كشرت فى وجه عابث، وبها مقابر للغزاة والطغاة وأحفاد الشيطان، وهى التى بدأت صناعة التاريخ، ورسم خرائط الجغرافيا، تغلفها فواصل الزمان وخطوط الطول ودوائر العرض، فقال الحاج أحمد عبد اللطيف : وكيف نصل إليها يا سليل الطاهرين وحفيد العارفين، فابتسم كرمه الله ثم ألقى فى وجوهنا بلفافة مستديرة لم تتقافز، ولم تتحرك، فمال العمدة يفتحها فإذا هى خريطة من جلد القرود، فقال كرمة الله : عندما تصلون إلى تلك المغارة، سوف يعود قمركم وعندما تصلون سوف تعرفون.
وبدأت الحشد القادم من آفاق النجع يتحرك، بحملة قادرة على اختراق كل الآفاق والرمال والجبال، والرياح، استمر الموكب يصعد الكثبان ويهبط الانهار والموكب ممتد، لم يتكلم احد، والشمس قد دفنت اذرعها حول أكوام الحشائش فى بطون الترع، والصهد قد ارخى آذان الحمير والخيول والمسافات تتأرجح اقترابا وبعدا تحت وقع السكون، ثم لم تلبث المسافات أن تقلصت، ضاقت، تلاشت، حتى أصبح الموكب كتلة واحدة مرتخية، ومجموعة من العمائم المتقاربة، لينداح بيننا همس قوى :
المغارة
ها هى المغارة
المغارة
فانتصب آذان الحمير وانشدت سيقان الخيول، وتمزقت الكتلة الواحدة المرتخية إلى ثوثبات فردية، كأن الحقيقة لم تكد تصل إلينا، أو احدا لم يكن يرغب فى الإفصاح عن المغارة.
وما كادت الانفاس المرهقة تصل إلى أعتاب المغارة، وتهمد من الارهاق، حتى سجد الركب شاكرا لله امام ابوابها، وركعوا لتغوص رءوسهم فى شعاعات النور، وتقدم العمدة وكبراء النجع، يزيحون الأحجار والتراب عن باب المغارة، حتى دك المسامع الصوت الدافئ الحنون مرددا صده فى الآفاق، مخترقا الركام والجماجم والظلام والوجدان.
لن نغضبكم ابدا ابدا.
انتم الذين أدفأتم الصوامع والبذور والحوائط، الصوامع والبذور والحوائط، انتم الذىن أخرجتمونى من استكانة التاريخ والوجل، استكانة التاريخ والوجل، انتم الذى حررتم رأسى من الوسائد، وجسدى من خمول الدهور.
وانهمر النور خارجا من المغارة، كاسحا كالرعد، يحطم العيون برقا، والقلوب رجفا، لتنزاح أستار العتمة وأشواك الظلمة، وبدأ الخير يتجمع فى الصوامع والأجران والقلوب، والحزن والهم يتجمع فى الآفاق راحلا، وهو يطلق عواءه المشروخ، ويهتز الكون ومعاقل الرعد وتنهار قصور الشياطين، ويبحث إبليس وأبناؤه عن ملجأ آخر غير أرض وسماء النجع، ويعود الكون متألقا ونظيفا ونقيا، وتعود الأشجار للثمر، والنخيل للطرح، لينداح فى الكون نور الحق واليقين، بعدها بدأت الأنوار فى السطوع، وتدفقت السحب تحمل فى بطنها شعاعات النور، ثم لم يلبث قرص القمر أن أطل من الأفق البعيد رائقا متهللا متألقا، وامتلأ الوادى برائحة الأخضر واليقظة والبركة وبدأت الشمس تداور الأفق، والرءوس تستريح فى دفء النور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.