رغم قلة عدد الافلام الطويلة القادمة من العالم العربى لدورة مهرجان كان السينمائى الدولى هذا العام، الا انها استطاعت جميعها ان تخطف انظار رواد المهرجان والصحافة العالمية. وعلى رأس تلك الأعمال الفنية ( تمبكتو) للمخرج الموريتانى عبدالرحمن سيساكو. ورغم ان بلده الأصلى لا يمتلك صناعة سينما بالمعنى الحقيقى إلا انه استطاع من خلال اربعة افلام سينمائية أن يحفر لنفسه اسما بين مخرجى العالم المهمين. فى فيلمه الجديد يثبت سيساكو انه سينمائى كبير مهموم بالقضايا الانسانية الكبرى ويمتلك موهبة التعبير المتفرد عنها بخصوصية. فى لقطاته الاولي، يطالعنا الفيلم بغزال ضعيف البنية يحاول الهروب من قناصيه الذى نتعرف عليهم سريعا انهم جماعة متشدة تحكم احدى المدن بالقرب من تمبكتو الواقعة شمال مالي. يبدو من لغتهم العربية الفصحى انهم هجين من شخصيات عربية وافريقية تنتمى لهذه الجماعة الغريبة على اهل المكان والتى تطبق حكم الحديد والنار عليهم. يجبرون سيدة على ارتداء قفازات وترفض لانها بائعة سمك وتحتاج ليديها حرة. ويحكمون على آخرين بالجلد لقيامهم بالغناء، ويزوجون احدهم عنوة من التى كانت تغنى رغم اعتراض امها، ويرجمون رجلا وامراة فجأة لاكتشافهم علاقة بينهما، بل ويمنعون الصبية من لعب كرة القدم لانها ( حرام ) فى عرفهم. يسيطرون على المدينة الصحراوية ويراقبون سكانها من فوق الاسطح وفوق الطرقات، وهم يرتدون زيا عسكريا مكتوبا عليه الشرطة الاسلامية. حتى المساحات الصحراوية المجاورة لم تسلم منهم. فيقدم الفيلم فى حبكته الرئيسية رجلا من قبيلة الطوارق (كيدان) يعيش فى خيمته مع زوجته ساتيما وابنته تويا وراعى بقره المراهق (ايسان).ويصر الرجل على البقاء تمسكا بمدينته رغم هجرة كل جيرانه، ويبدو زعيم التنظيم المتشدد يتحرش بزوجته وقت غيابه، ويراودها عن نفسها رغم ادعائه الفضيلة وتطبيق الشريعة هو وزملاؤه. نجح سيساكو فى صنع صورة سينمائية بليغة وشاعرية ذات قدرة على ترجمة بساطة روح سكان المدينة وقسوة من يحتلوهم. لكن مشكلة الفيلم الرئيسية فى التشظى وهجوم الحكايات على السرد بشكل مفاجئ بدون تمهيد أو حتى هارمونى وتجانس فيما بينها. ففجأة ننتقل من حكاية كيدان والصياد امادو الذى قتل بقرته إلى سيدة افريقية اقرب للمجذوبة تقوم بعمل طقوس واشارات غريبة لرجل فرنسى يرقص رقصة تعبيرية. طبعا كل تلك الحكايات تنتمى للمكان وللموضوع لكنها لا تتداعى بطريقة ما او تتناقض او تنتمى لاى وسيلة فنية كالمجاز أو المفارقة. طبعا لكل فيلم قانونه الداخلى لكن الفيصل ان نستشعر هذا التجانس والربط وهو ما هو مفتقد فى (تمبكتو). العيب الاخير ان الفرضية الدرامية الاخرى التى بنى عليها الفيلم الجانب الاكبر من حبكته ليست مرتبطة بقضية الفيلم. ان كيدان يقتل الصياد امادو انتقاما منه لقتل بقرته، ويقبض عليه المتشددون لتنفيذ حكم الاعدام عليه لكن بعد سؤال أسرة القتيل عما اذا كانوا سيصفحون عنه ام لا فترفض امه. اهدر الفيلم الكثير من وقته لهذه القصة رغم انها لا تخدم هدف الفيلم وهو اظهار مدى التخلف والجهل والظلم الذى يمارسه المتطرفون على اهالى القرية. حتى صوت شيخ المسجد المستنير الذى يرفض تلك الجماعة ويناقشهم بالحجة ان ما يفعلوه بعيد عن الاسلام الذى يحض على التسامح والبعد عن العنف، جاء باهتا وكان يحتاج لمزيد من العناء ليدخل فى دراما الاحداث ويؤدى بشكل طبيعى بعيدا عن الاسلوب الجاف الذى ظهر به. ورغم وجود مشاهد قاسية على مرهفى الحس كالرجم والجلد، لكن تظل بالفيلم العديد من اللحظات المضيئة مثل رعى الطفل للابقار بحب ودأب ومشاعر الطفلة الحانية نحو اهلها وصحرائها، وبكاء الاب الذى لا يخاف الموت لكن يحزن لانه لا يستطيع ان يرعى ابنته بعد موته. الفيلم العربى الآخر الذى جلب الدموع والآهات كان ( ماء الفضة. بورتريه عن سوريا) للمخرجين السوريين أسامة محمد ووئام بدرخان. كان عرض الفيلم بكان مليئا بالمشاعر الجياشة التى عبر فيها المخرجان عن اشتياقهما للعودة لوطنهما لانهما يعيشان بباريس. لكن الحكاية بالفيلم حكاية اخري، اذ اعترف اسامة محمد الراوى الاول للاحداث عن اقراره بصعوبة صنع فيلم عن الثورة السورية وما تلاها، ولهذا امتلئ الفيلم فى ثلثه الاول بمشاهد تسجيلية من اليوتيوب صورها سوريون منذ بداية انطلاق ثورتهم فى 15 مارس 2011 خاصة عندما انطلقت من مدينة درعا وساندها السوريون فى كل المدن، ثم كيف تطورت الاحداث حتى استخدم بشار الاسد السلاح الثقيل. يعترف اسامة ايضا ان فيلمه شارك فى اخراجه الف سورى وسورية صوروا المأساة لحظة بلحظة خاصة بالتليفونات المحمولة، حتى القتلة يصورون من يقتلوهم ويصورون انفسهم فى حالة تعذيب الآخرين. ان الامر يحتاج للتساؤل الفلسفى العميق عن اثر التكنولوجيا وسهولتها على البشر، هل فجرت رغبات السادية والمازوخية المختبئة بداخلهم. ونمضى من مظاهرة لاستعراض للجثث لآخر حتى نصل للجزء الاكثر حميمية الذى يميز الفيلم وهو علاقة المخرجين ببعضهما والتى تكونت عبر الانترنت وكان احد نتاجاتها هذا الفيلم. صداقة فى عالم افتراضى بين وئام بدرخان ذات الاصول الكردية التى صورت مدينتها حمص بعد ان تحطمت تماما وهجرها اغلب اهلها ولم يبق فيها الا الحيوانات التى احترق جسمها وقطعت ارجلها (!)، وبعض العائلات التى سمحت لوئام ان تجمع اطفالهم فى مدرسة تم صنعها لتعويضهم نقص كل شيء حولهم. تقول المخرجة ان بعض العائلات سحبت أبناءها الصغار من مدرستها لانها ليست محجبة ، وتتابع المخرجة إن احد الاطفال شديد العذوبة وتطلق عليه الكافر الصغير. لا اعرف حقيقة ما علاقة ما قالته المخرجة بمأساة الوضع فى سوريا، فإذا كانت تقصد الاشارة الى انتشار الجماعات الارهابية مثل داعش وجبهة النصرة على بعض المناطق السورية فكان عليها بالاحرى ان تواجه ذلك مباشرة. ولذلك تكمن مشكلة الفيلم ايضا فى ضعف التجانس بين مقاطع الفيلم، وعدم وجود وحدة اسلوبية بين اجزائه، والتعليق الصوتى المتفذلك الذى لا اضاف شعرية ولا اظهر جانبا من الحقيقة فظل فى منطقة رمادية من الكلام المجوف الاشبه بنصوص الهواة الذى يبدأون التجارب الادبية.يحسب للفيلم تذكيرنا بوحشية الاسد ورجاله، والتأكيد على صمود الشعب السورى الذى قدم تضحيات تفوق الخيال حفاظا على وطنه الذى اصبح لعبة الامم. شخصيا لم اخرج من الفيلم بتحليل سياسى عميق او برؤية جمالية استثنائية، بالذات ان أسامة محمد اصر على برود معملى سجن الفيلم فى سياق عقلى بارد، لكن يحسب للفيلم سبق الاصرار على محاولة صنع فيلم عن الوضع المعقد للبلد الشقيق فى الوقت الذى يتقاعس فيه الكثير من الموهوبين السوريين عن المشاركة بسلاح الفن فى معركة تحرير وطنهم من الفاشية والارهاب الدينى والالعاب السياسية العالمية. فى قسم هامشى للمهرجان عرض الفيلم العربى الثالث بنجاح كبير وهو فيلم (من يعيش)، للفرنسية ماريان تارديو. وهو عن شخصية شريف الفرنسى من عائلة عربية و المغلوب على امره فى احدى ضواحى المدن - ولعب الدور بأداء مرهف الفرنسى الجزائرى رضا كاتب ابن اخ الكاتب الاشهر كاتب ياسين- حيث يعانى شريف اثناء عمله كحارس لاحدى اسواق السوبر ماركت من مضايقات صبية مارقين من اصول عربية وافريقية يريدون الاشتباك معه يوميا. ويظهر الفيلم كم المعاناة التى يلقاها عرب فرنسا حتى الان فى الحصول على حياة كريمة بالاستعداد لخوض امتحان العمل كممرض، والمحزن ان من يمنعهم من ذلك ليس فقط المجتمع الفرنسى غير العادل معهم، لكن ابناء بلادهم ومهمشين مثلهم. يبدو شريف رقيقا وناجحا فى عمله السابق كحارس بمدرسة الاطفال، فيقع فى الحب سريعا مع مدرسة اطفال بنفس المدرسة ويحاول الحفاظ على الحب، فيطلب من ( ديدا) احد ابناء الحى الذى يعيش به ان يمنع عنه مضايقات المراهقين، فيشترط ديدا عليه ان يفصح له عن موعد وصول سيارة بضاعة كبيرة قادمة للمكان الذى يعمل به، يقبل مضطرا ولكن تتطور الامور فيقتل احد افراد عصابة ديدا فى الاشتباك مع الحراس. يهرب ديدا وتحوم الشكوك حول شريف، لكن الفيلم ينتهى بنجاته بعد ان كاد يذهب بلا رجعة للسجن. المعالجة الرقيقة والبساطة الاسلوبية ومعرفة المخرجة بما تريد ان تحكى جعلت شحنة المشاعر تصل بقوة للمتفرجين الذين تفاعلوا الى اقصى درجة مع الفيلم. اما آخر الافلام ذات البعد العربى القوى جاءت على يد النجمة المكسيكية الامريكية سلمى حايك التى قدمت سهرة كاملة مع مقاطع من فيلمها الذى تنتجه بعنوان النبى عن كتاب الشعر والفلسفة للكاتب اللبنانى الكبير جبران خليل جبران الذى امضى هو الاخر جزءا كبيرا من حياته بأمريكا. الجميل ان الفيلم هو من افلام الرسوم المتحركة، وقد ادهشتنا المقاطع التى عرضت من الفيلم لانها تأتى من 9 مخرجين عالميين شاركوا فى صنعه، تركت لهم حايك الفرصة لكى يختار كل منهم الاسلوب الذى يريده، وخرج الناتج متوهجا ومتوحشا ابداعيا فى ذات الوقت. كتاب جبران عبارة عن مقاطع كل منها تحمل فلسفته فى الحياة، وكلماته تحتاج لعقول كبيرة عميقة لفهم واستشعار ما يقصد.ما شاهدناه يشى بأن الفيلم القادم سيصل للاطفال قبل الكبار لذكاء اختيار رؤيته الفنية، حيث تحكى الاحداث من خلال طفلة شقية، يحكى لها قريبها الرسام مصطفى حكايات لكى تهدأ. وفى كل حكاية حكمة وبأسلوب أخاذ. فى سهرة عرض مقاطع فيلم جاء جيرار ديبارديو خصيصا لكى يقرأ مقاطع من الكتاب وكذلك الممثلة الفرنسية جولى جاييه وقالت حايك انها كانت تتمنى تقديم اى عمل يعبر عن اعتزازها بأصلها اللبنانى وبكونها امرأة عربية، ولم تجد لسنوات طويلة دورا يمنحها ذلك، ولذلك انتجت هذا الفيلم بمفردها بميزانية تبلغ 12 مليون دولار. قال لى الصديق المخرج د احمد ماهر: اين ممثلاتنا ونجماتنا من مثل هذه المشاريع، وضحكنا لا نعرف حزنا ام تندرا؟؟