نحن في حالة «ابتذال».. يقبض عليها بمنتهى الذكاء والخسة نجوم الوضاعة والصغار,لأنهم يعرفون جيداً, أن هذا البلد,لو تقدمت إلى قيمتها الحقيقية, فسوف يفقدون كل مكتسبات «المرحلة» بداية من لقاءات «التوك شو» وحتى حفلات «المعايرة الوطنية» وما بينهما من ملايين الجنيهات والدولارت واليورو,تشكل بلا شك- جزءا كبيراً من الاقتصاد السري الجديد. لكن ما يغيظ, هو أن «حالة الابتذال» وصلت إلى كراسي العلم,وانزلق العلماء والأساتذة إليها, أقول هذا تعليقا على خبر يؤكد أن ما يسمى ب«مجلس علماء مصر» قرر تأييد أحد المرشحين الرئاسيين,وهو خلط فادح بين العلم والسياسة,وبداية لاستغلال السياسة للعلم,مثلما استخدمت الدين,وهو أمر ينزل من قيمة العالم,إلى قيمة «العالمة».. ويحول مجالس العلماء, إلى مجالس «طبل وزمر» ترقص فيها السياسة, على كرامة العقول. ......................... عندما قامت ثورة 1919, كان العالم الكبير على مصطفى مشرفة, مبتعثا لدراسة الرياضيات فى إنجلترا وأرسل إلى صديقه مصطفى النقراشي يطلب إذنا بالعودة لمصر للمشاركة فى ثورتها الكبرى فرد عليه النقراشي حاسما: «نحن نحتاج إليك عالما أكثر مما نحتاج إليك ثائراً، أكمل دراستك ويمكنك أن تخدم مصر في جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها في شوارع مصر..» ... والمعنى واضح وحاسم, ودلالته واضحة فى التأكيد على قيمة العلم وكيف يمكن أن يكون العلم أداة ثورية عميقة ,فما دامت الثورة تريد أن تغير الحياة إلى الأفضل, فلابد أن يكون العلم هو طريقها.. وبعد ذلك بسنوات وفى عام 1945 أرسل أينشتين إلى مشرفة يدعوه لإلقاء محاضرة علمية لكنه اعتذر قائلا: «فى بلدى جيل يحتاج إلى».. والمعنى واضح أيضا فبالتأكيد على دور العالم فى وطنه, وهو دور لا يمكن ان يتحقق إلا حين تتسق شخصية العالم الإنسانية والوطنية, مع شخصيته العلمية... الآن وفى مهزلة الخلط بين الدين والسياسة وبين رجل السياسة ورجل الدين, يتم خلط أكبر وأخطر.. الخلط بين السياسة والعلم, وفى إطاره تتم الدعوة لأن يترك العلماء قيمهم العلمية التى نحتاجها, لينغمسوا فى أتون السياسة التى لا تحتاجهم ولا هم يحتاجونها,- إلا أولئك الذين لا تتسق شخصيتهم- .. وهى مهزلة تفوق مهزلة حرق المجمع العلمى, لأنها تحرق العالم بيده أو بيد غيره. وحين يحترق العالم.. ماذا يبقى للثورة؟ وماذا يبقى للوطن؟؟!! ......................... العالم لا يأتي بالانتخاب, كما أن صلاحية العالم «ممتدة» بصلاحية علمه.. ومتضاعفة بتطبيقه وإنتاج أثره.. والمثل واضح فى حياة علماء كثيرين, وواحد من أعظمهم علما وقيمة و«أجلهم» هو د. على مصطفى مشرفة الذي ولد في دمياط في 11 يوليه 1898، وتوفى فى 15 يناير عام 1951. كان الدكتور مشرفة أول من قام ببحوث علمية حول إيجاد مقياس للفراغ؛ حيث كانت هندسة الفراغ المبنية على نظرية «أينشين» تتعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك في مجال الجاذبية. ونظرية مشرفة في الإشعاع والسرعة عدت من أهم نظرياته وسببًا في شهرته وعالميته؛ حيث أثبت أن المادة إشعاع في أصلها، ويمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد يتحول إحداهما للآخر.. ولقد مهدت هذه النظرية العالم ليحول المواد الذرية إلى إشعاعات. كان الدكتور «علي» أحد القلائل الذين عرفوا سر تفتت الذرة وأحد العلماء الذين حاربوا استخدامها في الحرب.. بل كان أول من أضاف فكرة جديدة وهي أن الأيدروجين يمكن أن تصنع منه مثل هذه القنبلة.. إلا أنه لم يكن يتمنى أن تصنع القنبلة الأيدروجينية ، وهو ما حدث بعد وفاته بسنوات في الولاياتالمتحدة وروسيا.. ......................... تقدر أبحاث الدكتور «علي مشرفة» المتميزة في نظريات الكم، الذرة والإشعاع، الميكانيكا والديناميكا بنحو خمسة عشر بحثًا.. وقد بلغت مسودات أبحاثه العلمية قبل وفاته إلى حوالي مائتين.. ولعل الدكتور كان ينوي جمعها ليحصل بها على جائزة نوبل في العلوم الرياضية. من مقولاته المؤسسة للتفكير العلمي المغدور فى بلادنا: «خير للكلية أن تخرج عالمًا واحدًا كاملاً.. من أن تخرج كثيرين أنصاف علماء» هكذا كان يؤمن الدكتور مشرفة، وكان كفاحه المتواصل من أجل خلق روح علمية خيرة.. ......................... ثقافتنا في نظر الدكتور مشرفة هي الثقافة الأصلية التي لا بد أن نقف عندها طويلاً. ويرى أنه لا يزدهر حاضر أمة تهمل دراسة ماضيها، وأنه لا بد من الوقوف عند نوابغ الإسلام والعرب، ونكون أدرى الناس بها.. فساهم بذلك في إحياء الكتب القديمة وإظهارها للقارئ العربي مثل: كتاب الخوارزمي في الجبر والفارابي في الطب والحسن ابن الهيثم في الرياضة.. وغيرها. يقول المؤرخون: إن الدكتور مشرفة أرسى قواعد جامعية راقية.. حافظ فيها على استقلالها وأعطى للدرس حصانته وألغى الاستثناءات بكل صورها، وكان يقول: «إن مبدأ تكافؤ الفرص هو المقياس الدقيق الذي يرتضيه ضميري». ......................... كوّن لجنة لترجمة «الأوبرات الأجنبية» إلى اللغة العربية.. والمدهش أنه كتب كتابًا في الموسيقى المصرية توصل فيه إلى أن جميع النغمات الأخرى في السلم الموسيقي غير السيكا والعراق يمكن إلغاؤها أو الاستغناء عنها. وقد اغتيل الدكتور «علي مصطفى مشرفة» بالسم عن عمر يناهز 52 عامًا.. يوم الإثنين الموافق 15 يناير 1950.. كما اغتيل علماء كثيرون مثل تلميذته سميرة موسى والمشد والسيد سيد بدير .. بيد إسرائيل .. ولا يوجد مانع عند إسرائيل من أن يغتال علماؤنا أنفسهم.. بانغماسهم فى السياسة.