الكلمات الآتية ضرورية، لكى أقول للعالم الكبير د. أحمد زويل “أرجوك.. دعك من هذا الهزل.." .. فعندما قامت ثورة 1919، كان العالم الكبير على مصطفى مشرفة، مبتعثا لدراسة الرياضيات فى إنجلترا وأرسل إلى صديقه مصطفى النقراشى يطلب إذنا بالعودة لمصر للمشاركة فى ثورتها الكبرى، فرد عليه النقراشى حاسما: “نحن نحتاج إليك عالما أكثر مما نحتاج إليك ثائراً، أكمل دراستك ويمكنك أن تخدم مصر في جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها في شوارع مصر.."، والمعنى واضح وحاسم، ودلالته واضحة فى التأكيد على قيمة العلم وكيف يمكن أن يكون العلم أداة ثورية عميقة، فما دامت الثورة تريد أن تغير الحياة إلى الأفضل، فلابد أن يكون العلم هو طريقها.. بعد ذلك بسنوات وفى عام 1945 أرسل إينشتين إلى مشرفة يدعوه لإلقاء محاضرة علمية لكنه اعتذر قائلا: “فى بلدى جيل يحتاج إلى".. والمعنى واضح أيضا فى التأكيد على دور العالم فى وطنه، وهو دور لا يمكن أن يتحقق إلا حين تتسق شخصية العالم الإنسانية والوطنية، مع شخصيته العلمية.. الآن، وفى مهزلة الخلط بين الدين والسياسة وبين رجل السياسة ورجل الدين، يتم خلط أكبر وأخطر.. الخلط بين السياسة والعلم، وفى إطاره تتم الدعوة لأن يترك العلماء قيمهم العلمية التى نحتاجها، لينغمسوا فى أتون السياسة التى لا تحتاجهم ولا هم يحتاجونها - إلا أولئك الذين لا تتسق شخصيتهم - وهى مهزلة تفوق مهزلة حرق المجمع العلمى، لأنها تحرق العالم بيده أو بيد غيره. وحين يحترق العالم.. ماذا يبقى للثورة؟ وماذا يبقى للوطن؟! هكذا أعود مرة أخرى وأقول لعالمنا وأملنا الحقيقى، د. زويل “دعك من هذا الهزل.. فنحن نحتاجك عالما ثائرا، لا رئيسا توافقيا".. لا نريدك رئيسا ولا وزيرا ولا مشاركا من بعيد أو قريب فى عمل سياسى، ولأن تظل عالما كبيرا، خير لنا ولك من أن تتحول رئيسا صغيرا.. فالصغر يأتى لمن يترك قيمته الحقيقية إلى قيمة لا تنتسب إليه ولا ينتسب لها، حتى لو كانت أكبر.. وأكبر مصائب بلادنا على مدار تاريخها كلها، الظن بأن الرؤساء أكبر من العلماء.. أنا واحد من الذين يكرهون تلك المادة السمجة فى الدستور. التى تمنع ترشح المتزوج بغير مصرية، فكأنها تدين المصرى بإنسانيته، ومع ذلك – وياللمرارة - أسكت عن رفضها، لأنها فيما يبدو الحائل الوحيد، الذى يمكن أن يمنع زويل من الترشح للرئاسة، والاحتراق بنارها.. ومن مهازل هذه الأمة، بعض من يتصورون أنهم نخبها، ويحاولون جر العالم الكبير - والبعض يقول إنه يجر نفسه - إلى الترشح الرئاسى بحجة أنه “توافقى ومقبول شعبيا".. وفى هذه عودة لمهزلة الرجل الواحد، والرئيس الواحد التى بررت بقاء المخلوع وأرادت أن تبرر المجىء بابن المخلوع وكأن مصر خلت من رجالاتها القادرين على عبء الرئاسة.. كما أنها عملية تريد حرق المرشحين الحاليين بمرشحين آتين، ثم حرق الحالى والآتى. بنفس حجة أن رجلا من المرشحين لا يصلح، فيتم فرض من يريدون فرضه، ولو بالانتخاب؟!.. وأنا أدرك مدى حب الشعب المصرى لزويل وأشهد أنه محبوب شعبيا، وقبل سنوات كنت مع الراحل الكبير فاروق إبراهيم فى الحسين ورأينا د. زويل جالسا على مقهى الفيشاوى، وجلسنا إليه والتقط له الراحل فاروق إبراهيم صورة وهو يدخن الشيشة نشرناها فى مجلة “كل الناس" وكانت صورة معبرة عن مصريته، وفى تلك اللحظات التى جلسنا إليه كان المصريون يتوافدون عليه للسلام عليه فى حب وتقدير بالغين، لكنه كان وسيظل حبا وتقديرا للعالم “الذى رفع رأسهم عاليا.. فى المحافل العلمية.. وسيأتى ليحل مشاكلهم من خلال العلم".. وحتى حينما نشر الصحفى الكبير “محمود عوض" مقاله الرائع “أحب أم أحمد زويل" التى أكد فيها أصالة الأم المصرية التى رفضت ترك بلدها، ونعى فيها على زويل تركه مصر، اعترض كثيرون على هذا.. فليس من العدل أن يبقى الطالب زويل فى مستنقع البيروقراطية المصرية، بحجة المصرية، ولا يشرق على العالم بعلمه، حتى ولو من أمريكا.. فكذلك هرب عالم كبير إلى بريطانيا هو السير مجدى يعقوب، لكنه خدم مصر كما – طالب النقراشى مشرفة - من بريطانيا أكثر مما خدمها هنا، ثم إنه عاد إلى مصر بمشروع العلمى الطبى الذى ينقذ يوميا أطفال مصر، وأكثر من ذلك يقوم يوميا بإعداد أطباء وعلماء جدد، يخدمون هذه الوطن من خلال مركز أبحاثه الذى يخدم مواهب الباحثين المصريين الشبان.. ولا يوجد فى مصر مصرى حقيقى إلا ويقدر يعقوب على ذلك، كما أن أبسط إنسان فى أبعد قرية مصرية - حتى لو كان أميا - يتمنى أن يتحقق الحلم ويرى مدينة زويل العلمية، واقعا على أرض مصر.. فهى الواقع الذى يمكن أن يغير الواقع المصرى إلى الأفضل والأجمل والأروع.. ولأن يجلس العقل الجبار د. زويل فى صومعته الخالدة فى مدينة العلم باحثا عن حلول علمية لأزمات ومشاكل وأمراض المجتمع المصرى، ثم يقدمها له، فإن المجتمع كله سيمشى وراء إشراقات عقله، وهو خير من جلوسه على كرسى رئاسة زائل، تتنازعه و"تخلخله" أهواء الألاعيب السياسية.. ولأن يجلس العقل الجبار ليتناقش مع مواهب شابة ويهديها الطريق العلمى الذى سار عليه، خير من أن يجلس إلى عبد المنعم الشحات ومن هم دونه ومن هم فوقه.. ولأن يصبح زويل رئيسا، يشبه فى الخطر أن يصبح عبد المنعم الشحات وزيرا للثقافة وراعيا للفنون!! مصطفى مشرفة وأؤكد أن كرسى الرئاسة شرف عظيم ومهمة خطيرة، نتمنى أن تجىء الانتخابات بمن هو أصلح لها.. لكن العالم لا يأتى بالانتخاب، كما أن “صلاحية العالم “ ممتدة “بصلاحية علمه".. ومتضاعفة بتطبيقه وإنتاج أثره.. والمثل واضح فى حياة علماء كثيرين، وواحد من أعظمهم علما وقيمة و"أجلهم" هو د.على مصطفى مشرفة الذى ولد في دمياط في 11 يوليو 1898، وتوفى فى 15 يناير عام 1951 (وسأنقل بتصرف من عدة مواقع إلكترونية أبرزها موقع ويكيبيديا) والده هو السيد “مصطفى عطية مشرفة" من مشايخ الدين ومن مدرسة الإمام جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. كان لأبويه اليسر المادي والجاه الاجتماعي.. فنشأ “علي" على الشعور المرهف بالجمال الذي لم يفقده حبه للخير.. ومصادقة الضعفاء والمساكين. وفي عام 1917 اختير لبعثة علمية لأول مرة إلى انجلترا بعد تخرجه.. التحق “علي" بكلية نوتنجهام ثم بكلية “الملك" بلندن. حيث حصل منها على بكالوريوس علوم مع مرتبة الشرف في عام 1923. ثم حصل على شهادة (دكتوراة الفلسفة) من جامعة لندن في أقصر مدة تسمح بها قوانين الجامعة. رجع إلى مصر بأمر من الوزارة، وعين مدرسًا بمدرسة المعلمين العليا.. إلا أنه وفي أول فرصة سنحت له، سافر ثانية إلى إنجلترا، وحصل على درجة دكتوراه العلوم فكان بذلك أول مصري يحصل عليها. في عام 1925 رجع إلى مصر، وعين أستاذًا للرياضة التطبيقية بكلية العلوم بجامعة القاهرة، ثم مُنح درجة “أستاذ" في عام 1926، رغم اعتراض قانون الجامعة على منح اللقب لمن هو أدنى من الثلاثين. اعتمد الدكتور “علي" عميدًا للكلية في عام 1936 وانتخب للعمادة أربع مرات متتاليات، كما انتخب في ديسمبر 1945 وكيلاً للجامعة. بدأت أبحاث الدكتور “علي مشرفة" تأخذ مكانها في الدوريات العلمية وعمره لم يتجاوز خمسة عشر عامًا. في الجامعة الملكية بلندن، نشر له أول خمسة أبحاث حول النظرية الكمية التي نال من أجلها درجتي (دكتوراة الفلسفة) و (دكتوراة العلوم). أضاف نظريات جديدة في تفسير الإشعاع الصادر من الشمس، إلا أن نظرية الدكتور مشرفة في الإشعاع والسرعة عدت من أهم نظرياته وسببًا في شهرته وعالميته. من مقولاته المؤسسة للتفكير العلمى المغدور فى بلادنا:"خير للكلية أن تخرج عالمًا واحدًا كاملاً.. من أن تخرج كثيرين أنصاف علماء" هكذا كان يؤمن الدكتور مشرفة، وكان كفاحه المتواصل من أجل خلق روح علمية خيرة.. ويقول في سلسلة محاضراته الإذاعية (أحاديث العلماء): “هذه العقلية العلمية تعوزنا اليوم في معالجة كثير من أمورنا، وإنما تكمن الصعوبة في اكتسابها والدرج عليها.. فالعقلية العلمية تتميز بشيئين أساسيين: الخبرة المباشرة، والتفكير المنطقي الصحيح" ولقد نادى بأفكاره هذه في كثير من مقالاته ومحاضراته في الإذاعة: مثل: كيف يحل العالم مشكلة الفقر؟ – العلم والأخلاق – العلم والمال – العلم والاقتصاد - العلم والاجتماع.. وغيرها. واهتم خاصة بمجال الذرة والإشعاع وكان يقول: “إن الحكومة التي تهمل دراسة الذرة إنما تهمل الدفاع عن وطنها". ثقافتنا في نظر الدكتور مشرفة هي الثقافة الأصلية التي لا بد أن نقف عندها طويلاً. ويرى أنه لا يزدهر حاضر أمة تهمل دراسة ماضيها، وأنه لا بد من الوقوف عند نوابغ الإسلام والعرب، ونكون أدرى الناس بها.. فساهم بذلك في إحياء الكتب القديمة وإظهارها للقارئ العربي مثل: كتاب الخوارزمي في الجبر والفارابي في الطب والحسن ابن الهيثم في الرياضة.. وغيرها. وكان الدكتور مشرفة ينظر إلى الأستاذية على أنها لا تقتصر على العلم فقط، وإنما توجب الاتصال بالحياة.. وأن الأستاذ يجب أن يكون ذا أثر فاعل في توجيه الرأي العام في الأحداث الكبرى التي تمر بالبلاد، وأن يحافظ على حرية الرأي عند المواطنين، وآمن الدكتور مشرفة بأن “العلم في خدمة الإنسان دائمًا وأن خير وسيلة لاتقاء العدو أن تكون قادرًا على رده بمثله.. فالمقدرة العلمية والفنية قد صارتا كل شيء.. ولو أن الألمان توصلوا إلى صنع القنبلة الذرية قبل الحلفاء لتغيرت نتيجة الحرب.. وهو تنوير علمي للأمة يعتمد عليه المواطن المدني والحربي معًا". كما تمتعت كلية العلوم في عصره بشهرة عالمية واسعة؛ حيث عني عناية تامة بالبحث العلمي وإمكاناته، فوفر كل الفرص المتاحة للباحثين الشباب لإتمام بحوثهم.. ووصل به الاهتمام إلى مراسلة أعضاء البعثات الخارجية.. سمح لأول مرة بدخول الطلبة العرب الكلية، حيث كان يرى أن: “القيود القومية والفواصل الجنسية ما هي إلا حبال الشيطان يبث بها العداوة والبغضاء بين القلوب المتآلفة". وقد اغتيل الدكتور “علي مصطفى مشرفة" بالسم عن عمر يناهز 52 عامًا.. يوم الإثنين الموافق 15 يناير 1950.. كما اغتيل علماء كثيرون مثل تلميذته سميرة موسى والمشد والسيد سيد بدير.. بيد إسرائيل.. ولا يوجد مانع عند إسرائيل من اغتيال د. أحمد زويل التى ذهب إليها معلما.. وسيسرها أن نغتاله نحن بأيدينا.. بواسطة كرسى الرئاسة..