ذلك اليوم.. كان يوما مشبعا بالضياع ولون الانتهاء ورائحة الرحيل وانشطرت السماء ومادت الأرض كأنها ابتلعت الفتاة ابنة السادسة عشرة ربيعا، ضاعت الفتاة في الطرقات دون أن تعلم أسرتها من الذي وضع بيديه خطة اغتيال أحلامهم وحفر الخطوات لخطف ابنتهم وأضرم النار في قلوبهم. أفترشت الأسرة الصغيرة سنوات العمر بالطموح ونمت بذور الأمل داخلهم بأن تصبح ابنتهم الوحيدة «طبيبة» وكبرت الصغيرة حتي حصلت علي الشهادة الاعدادية وهامت حبا بمهنة «ملائكة الرحمة» فهي تدرك أنها لن تتمكن من أن تصبح طبيبة فقررت تحقيق جزء من الحلم بأن تلتحق بمدرسة التمريض كي تكون عونا للطبيبة. لم يمارس الأب المدير العام بإدارة بيلا التعليمية ضغوطا علي ابنته الوحيدة فهي الشقيقة لذكرين وأحترم رغبتها وجال جميع مدارس التمريض للبحث عن مدرسة يلحق ابنته بها ووقع اختياره علي مدرسة التمريض بمنطقة المقطم. استأجر الأب شقة بمنطقة المقطم لابنته ومجموعة من زميلاتها جميعهن من مركز بيلا بكفر الشيخ وتربطه بعائلاتهن علاقات قرابة ومصاهرة، وكانت هي تسافر لأسرتها كل يوم خميس وتعود للمدرسة صباح السبت. مر العام الأول وتفوقت الفتاة علي كل زميلاتها ونالت إعجاب المدرسين واتسمت بدماثة الخلق وحسن السلوك ولاح للأب بريق في الأفق بأن ابنته قد تلتحق بكلية التمريض وتتحقق أحلامه، لكن سرعان ما انطفأ البريق، وغابت الأحلام. استيقظ الأب علي رنين هاتفه المحمول وكان المتصل هي زهرة العمر والشباب التي زفت إليه الخبر بأنها سوف تستقل الأتوبيس العائد إلي المركز الساعة الثانية عشرة في طريقها إليه وأوصته بأن تجهز لها والدتها كل ماتشتهيه نفسها من طعام «ست الحبايب» ومرت الساعة الرابعة والخامسة حتي العاشرة ولم تعد الفتاة وكلما اتصل بها والدها وجد الهاتف مغلقا كاد يفقد عقله واستقل سيارة أحد أقاربه وبحث عنها في كل شبر داخل قريته إبشان مركز بيلا ثم فتش عنها في الطريق المؤدي من كفر الشيخ إلي القاهرة لعلها تكون قد تعرضت لحادث علي الطريق، ولكن بلا جدوي. سابقت خطوات الأب خطوات الأقارب والاصدقاء والكل يلهث في المستشفيات وأقسام الشرطة حتي المشرحة، ولا أثر للفتاة، كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها أو كأن رياحا عاتية قد حملتها لتقذف بها في عالم آخر. هرول الأب إلي زميلات ابنته في السكن واندفع لغرفتها ورأي ملابسها وكتبها وكل متعلقاتها وصورتها تزين حائط المكان، خلت الغرفة منها لكن رائحتها العطرة ظلت تفوح في المكان لتبدو كأثر أخير للزهرة الغائبة، تلك الرائحة، التي بدت لوالدها كرائحة الرحيل. قالت زميلاتها إنها حملت حقيبتها وتوجهت إلي موقف عبود لاستقلال الأتوبيس المتجه إلي كفر الشيخ وان السعادة كانت تكسو وجهها كأنها متجهة إلي الجنة، اشترت هدايا لأمها وشقيقيها وباتت ليلتها مستيقظة في فراشها في انتظار ضوء النهار كي تشد الرحال للعودة. حرقت الصدمة قلب الأب وكادت تصيب عقله بالجنون فكيف يعيش دون زهرته في هذا الكون الفسيح؟ وحاصره الهلاك ولوعة فراق ابنته وتمني لو تعود إليه ولو جثة المهم كي يواري جسدها بيديه تحت الثري وتطفئ نيران غيابها داخل صدره. حرر الأب محضرا باختفاء ابنته في قسم شرطة المقطم ووعده المسئولون بالقسم بعمل التحريات للتوصل إلي الفتاة ومرت أشهر ولايزال مسئولو القسم يجمعون التحريات، بينما يلفظ الأب أنفاسه في اليوم ألف مرة وتعصف برأسه التساؤلات حول مصير ابنته التي ضاعت في دوامات غياب الأمن واختطاف المارة في وضح النهار. ثم توجه وحرر محضرا آخر بقسم السيدة زينب حيث كانت تقيم ابنته مع زميلاتها، ورغم أن البلاغ تم تحريره يوم 23 ديسمبر الماضي إلا أن مسئولي القسم لم يتوصلوا إلي نتائج، ولم ينجحوا في كشف لغز غياب الفتاة. في النهاية.. لم يجد الأب أمامه سبيلا سوي البحث في كل شبر في محافظات مصر للبحث عن الزهرة الغائبة.. الضائعة في ظروف غامضة بعد أن أدار رجال البحث الجنائي ظهورهم له وأبلغوه بأنهم فعلوا أقصي مافي وسعهم، وأن عليه أن يستعوض الله في ابنته ويتفرغ للدعاء بأن تعود يوما!