ونحن نستحضر الوطن والرمز في لحظات الغياب نستشعر الدفء والانتماء, ونستعيد المنهل والتاريخ, وصانعة المجد.. من زحمة الحياة, وننقيها من أخطائنا ومن آثام الآخرين, ونجلو عن وجهها رماد الألسنة, ونفثات النفوس الحاقدة. نجلوه في متعة من يحب أن يري محبوبته جميلة الجميلات.. والشعراء في حبهم ذهبوا مذاهب شتي, واستنفروا وجدانهم, ووقفوا معها كتفا بكتف, شاهرين القلم بدم الروح من أجلها, وأصبح التغني بها قيمة تتأصل, وفكرة تترسخ وتتواصل, في الخاطر والدم.. ونحن إن أخذنا الغياب عنها لظروف الحياة وقساوتها, فإننا نهب حين يخدش أحد كرامتها أو ينال أولادها بأذي. (مرت/ أسابيع قليلة/ علي الغياب/ أطفأتها/ بنفخة واحدة/ وبعدها/ حضرت شاهرا عصاي/ مسدلا/ كل ماهجرته من الثياب). تلك عودة الشاعر دكتور أحمد تيمور.. وعودتنا جميعا شاهرين عصا الانتماء نسدل علي أجسادنا أعلامها وننطلق. والشاعر واحد من كوكبة الشعراء الذين أحبوا مصر وأهدوها مهجة شعرهم.. دواوين تحيي مجدها وتتغني بدورها وجمالها ومفردات نيلها ودورها, وإيمانها المشتعل. أتوقف أمام قصيدته (مارش رومانسي) من ديوانه (العصافير في زيها القاهري) الذي مزج فيه بين الخاص والعام, واستحضر مصر في وجدانه كلمة وصورة وغمس ذاته في الهم الجمعي, وطرز لها من كلماته وشاحا ترتديه.. وأبانت قصيدته عن الحب الذي يتجدد.. فتتجدد الأمة بحب الأنباء.. (ومارش رومانسي) تتغني بمفردات المكان, وتمتزج الأنا الشاعرة بطبيعة مصر امتزاج المحب المنتمي الذي يضحي بذاته من أجل الوطن, هذه التضحية هي التي تصنع المجد الذي يصبح الدم فيه له رائحة الأريج والعطور. (لو كنت زهرا/ لا صطففت كالجنود/ شاهرا دمي/ أريجا في سبيلك). ما أجمل الصورة المركبة التي أوردها الشاعر.. بين الزهر والأريج, والجنود والدم, لتصنع وشيجة من القلب, حيث يتعالي النداء مخاطبا مصر ومسجلا أقدارها وأشراط تفردها.. مثل قوله (ياقبلة السما).. (ياشمعة خضرا).. (يابلادنا)..( يامصرنا).. والنداء الشعري المتكرر يخرج من صهد الوجدان, ويدخل فيه. ويتحول المفتتح (يامصرنا..) إلي مقطع صوتي يتكرر فيوحي بالدلالة, ويعمق الشعور بها ويرفد الصورة في تجلياتها, وتعدد مفرداتها, وتراسل معانيها.( لوكنت نهرا/ مااشتهيت أن أكون/ غير نيلك).والبناء الشرطي تعبير تكراري, حيث ولد الشاعر من دلالته صورا جزئية تلح علي معاني الانتماء, والامتزاج, والغناء. فالذات الشاعرة/ المواطن.. يشتهي أن يكون جزءا من النيل, وأريجا من زهور مصر, وضوءا من شمسها المنيرة, وصوتا من صهيل جيادها.. والرومانسية التي تشع من التركيب الشعري تعلي من شأن الوطن إلي درجة من التنوع الذي يسعي إلي الاكتمال, والبهاء في مصفوفة طبيعية تتسم بالعلو, والسموق, والجمال معا.(لوكنت بدرا/ لانقسمت كل ليلة/ أهلة/ علي مفارق الجريد/ في ذري نخيلك)وينساب الجرس الصوتي في شوق المتلهف ليلون الايقاع عبر الحرف الساكن وعبر لهفة الحب البادية. مثلما تشابك في سلاسة اللفظ والحركة, وانصهرت في امتزاج الأمة في الذات.. فراحت تصهل بفرحة الجياد وتنطلق.. فأبناؤها المحبون لها.. أفراس يصهلون بحب الوطن.. علي حين يتخذ الوطن منهم محفة إلي المجد. (لوكنت مهرا/ لانسكبت يابلادنا/ صهيلا/ فوق مرتوي نجيلك).. و.. يامصرنا.. لك المجد كله.. المزيد من مقالات محمد قطب