كتب يوما أحد المتصوفة يقول فى وصف بر مصر: هى البلد الذى يوجد به فى كل شهر نوع من المأكول: فيقال رطب توت ورمان بابة وموز هاتور، وسمك كيهك وماء طوبة وخروف أمشير، ولبن برمهات وورد برمودة ونبق بشنس، وتين بؤونة وعسل أبيب وعنب مسرى والسبع زهرات التى تجتمع فى أواخر الشتاء فى وقت واحد لا تجتمع فى غيرها من البلاد، وهى النرجس والبنفسج والورد النصيبى والهجانى وزهرة النارنج والياسمين والنسرين. فهى تحفة للناظرين. ربما كان إهداء زوج زهرة اللوتس لزوجته صباح شم النسيم خير لقطة إفتتاحية تحكى عن قصص الحدائق المصرية التى كان يزرع بها نخيل الدوم والعنب والجميز والكافور والياسمين والنعناع وكل رموز الحصاد التى تعلن تمام اخضرار الأرض العفية ووصول الخيرات إلى البيوت. مشهد عرفته مصر منذ عصر ما قبل الأسرات وبداية الدولة المصرية القديمة، ومع هذا فقصص الحدائق المصرية ليست واضحة تماما فى أذهاننا، حتى اننا لم نعد نسمع عن حدائق نمت فى مصر فى سالف الزمان قبل أن يتقدم إسماعيل باشا بمشروع الحدائق الخديوية تحمل أسماء الحسينية والأزبكية و بركة الفيل! وبركة الفيل تعود تسميتها إلى رجل يحمل هذا الاسم من أصدقاء أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية. ويقال أيضا والعهدة على ذاكرة مصر- ان سبب التسمية وجود بيت للفيلة قريب من هذا المكان بين الفسطاط والقاهرة، وكان بينهم فيل كبير يراه المصريون وهو يجوب المكان. ولولا الماء الآتى من الخليج المصرى -المعروف الآن بشارع بورسعيد لما تكونت هذه البركة. فهذا الخليج حسب رواية شيخ المعماريين د. يحيى الزينى كان مجرى مائيا متفرعا من النيل عند مصر القديمة، ظل الماء يجرى به إلى أن ردم عام 1896بعد تفشى وباء الكوليرا، ليحل محله أول خطوط الترام فى بر مصر عام 1899 لينتهى مشهد جميل من الذاكرة المصرية. وقد شيد حول بركة الفيل الكثير من القصور الفخيمة فى زمن المماليك والعثمانلية ، حتى قرر الخديو عباس حلمى بناء سراية ضخمة عرفت باسم سراى الحلمية لتهدم فى بداية القرن الماضى، وتحل محلها منطقة سكنية يسكنها المصريون والمتمصرون أصبح اسمها حى الحلمية الجديدة. أما الحسينية، فقد كانت هى الأخرى من أجمل متنزهات القاهرة، و بدايتها حارة عمرها الجند كما يقول الأثرى الكبيرد. عبد الرءوف يوسف- خارج باب الفتوح وامتد العمران حتى وصل إلى الظاهر، والسبب وراء إنشائها هو خليج صغير متفرع من ذلك الخليج المصرى، كان سببا فى وصول الماء العذب و امتداد الحدائق إلى منطقة كوبرى الليمون و الفجالة وبركة الرطلى وما حولها بمنطقة الظاهر. الا انه تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فقد تفشى النمل الابيض كما أشار المقريزى فبادر أهل الجهة إلى هدم ما تبقى من دور خوفا منه. القصة نفسها عرفتها بولاق التى تميزت بكونها مقرا للاحتفال بوفاء النيل ليصدق عليها وصف الرحالة ليون الأفريقى فى القرن السادس عشر بأنها من أجمل المناطق المطلة على النيل التى تزخر بالمساجد والمدارس والقصور، وأيضا بموظفى الجمارك الذين يقومون بتحصيل الضرائب على التجارة، فى حين يوجد بالقرب منها حى الأزبكية ببركته وميدانه والذى وصفه الشيخ حسن العطار الأب الروحى للشيخ رفاعة الطهطاوى بأنه مساكن الامراء و موطن الرؤساء التى ترى الخضرة من خلال قصورها مبيضة كثياب سندس خضر على أثواب من فضة. وهكذا من وصف إلى وصف... تبدو حكايات غريبة. وإن كان الأغرب فى رأيى ما قاله مفتش المزارع الخديوية فى مصر فى زمن الخديو إسماعيل من ان روح المثابرة والاستمرار كانت ضعيفة فى البلاد فلم يواظب المصريون على رعاية الحدائق التى استنبتت فيها الكثير من النباتات، ولهذا لم تنجح فى كثير من الأحيان.. لهذا كله اتساءل: ماذا لو كان على قيد الحياة ويعيش فى القاهرة الأن؟!