لا أبالغ إذا قلت إن هذا الكتاب البديع قد منحنى ساعات من المتعة البالغة، وأنا أطالع صفحاته، وأتوقَّف - بين الحين والحين- عند بعض فقراته وسطوره، ثمَّ أعود لأقرأ ما فات منه، فى نشوة روحية لم تعد توفِّرها مطالعة كثير مما يصدر الآن من كتابات. الكتاب هو: «الروائى ومدينته» من تأليف مجموعة من الباحثين الروس، ترجمه إلى العربية - عن الروسية - الدكتور أنور إبراهيم، الرئيس الأسبق للعلاقات الثقافية بوزارة الثقافة، والمثقَّف والمترجم الكبير. أما الروائى الذى يتحدَّث عنه الكتاب فهو فيودور ميخائيلوفتش دستوفيسكي، واحد من أعظم الروائيين فى تاريخ الأدب الروسي، والأدب العالمى (1821-1881) عرف بأعماله التى حظيت بشهرة واسعة وتقدير رفيع مثل: «الجريمة والعقاب» و»الأبله» و»الإخوة كرامازوف» و»المساكين» و»المقامر» وغيرها. وهى أعمال تقول عنها الموسوعة العربية الميسَّرة: « إنها تتميَّز بالتحليل النفسى العميق، والقدرة الخارقة على محبة جميع البشر والعطف عليهم، مهما بلغوا من الدناءة والحِطَّة. كما تتميَّز بالاهتمام بمشكلات الخطيئة والعقاب والخلاص». وقد ترجمت أعماله الكاملة إلى العربية ترجمة رفيعة المستوى - عن الفرنسية - بقلم الأديب السورى الكبير سامى الدروبى - الذى كان سفيرًا لسوريا فى مصر، وله موقف معروف أمام الرئيس جمال عبد الناصر وهو يقدم أوراق اعتماده سفيرًا لسوريا بعد حدوث الانفصال عام 1961، هو الذى كان مواطنًا فى دولة الوحدة بين البلدين، مؤمنًا بها وبزعيمها، وقد صدرت هذه الأعمال عن دار اليقظة السورية. أما المدينة فهى بطرسبورج التى كانت عاصمة الثقافة والفنون فى روسيا، وثانى مدينة فيها بعد موسكو فى زمن القياصرة, وقد قدر لدستويفسكى أن يقيم فيها ثمانية وعشرين عامًا، - بعد أن عاش أعوامه الستة عشر الأولى فى موسكو - وألا يغادرها إلا مرتين: الأولى فى عام 1849 عندما تم ترحيله ونفيه منها إلى سيبيريا بصحبة رفاقه من الشباب ذوى النزعة الاشتراكية الطوباوية، وظل أربع سنوات فى المعتقل فى مدينة «أومسك»، ثم فى الخدمة العسكرية، حتى عودته إليها فى نهاية عام 1959. ثم غادرها للمرة الثانية - مرغمًا - بصحبة زوجته، بعد أن ساءت أحواله المالية وحاصره الدائنون، حيث قضى أربع سنوات متنقلاً بين ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، وعاد إلى المدينة التى آثرها على كل المدن، بعد أن عذبته الغربة عذابًا شديدًا. وفى مدينته هذه، ظل ينتقل من بيت إلى آخر أكثر من عشرين مرة، ولا يستقر فى بيت واحد أكثر من ثلاث سنوات. وكانت غالبية هذه البيوت تقع على نواصى الشوارع، لأنه كان يهوى التقاطعات ومشاهدة الأفق، وكانت هذه البيوت تقع غالبًا فى مواجهة كنيسة أو كاتدرائية. يتحدث الكتاب المترجم عن حضور بطرسبورج فى أعمال بوشكين وجوجول ودستويفسكى وأندريه بيلى وألكسندر بلوك وغيرهم، وكيف أن الأدب الذى كتبوه مشبَّع بروح هذه المدينة، بجمالها الأخّاذ وفتنتها وجاذبيتها، ذلك أنها ليست مجرد مدينة مُلهِمة فحسب، وإنما هى كيان حى ينفرد كل من عرفه بعلاقة خاصة به، علاقة فريدة لا تتكرر. والمدن كالبشر، لكن وجه بطرسبورج متنوِّع للغاية، قابل للتغير، أحيانًا يبدو قريبًا ومألوفًا، وفى أحيان أخرى غريبًا وعجيبًا. فهى مدينة متقلبة الأهواء، يتغير مزاجها فى لحظة، ويتوقف هذا دائمًا على الضوء أو على الشمس. وبالنسبة لدستويفسكى فإن بطرسبورج هى أكثر المدن فى العالم تجريدًا. ويصف علاقته بها على لسان أحد أبطاله قائلا: «إنه لبؤس مضاعف أن تعيش فى بطرسبورج، إنها مدينة أشباه المجانين، من النادر أن يصادف المرء كل هذه التأثيرات الكئيبة والحادة والغريبة على روح الإنسان مثلما يصادفها فى بطرسبورج.» وبالرغم من ذلك فقد أحبها حبًّا شديدًا، فهى مدينة الآلام المضنية وعذابات اللوعة والفقد التى عاناها (وفاة أخيه وزوجته وصديقه أبوللون). وهى المدينة الضرورية لإبداعه، وكثيرًا ما كانت مصدر إلهامه، كلما غادرها سعى للعودة إليها، وكلما عاد إليها تعذَّب بها، ولازمه الإحساس بالنفور والملل والضيق. وهو لم يمتلك فيها لنفسه بيتًا واحدًا على الإطلاق، ولم تطل إقامته فى ركن من أركانها، آملاً فى كل مرة أن يجد شيئًا ما جديدًا. وعلى شاكلته كان الكثير من أبطال رواياته يغيِّرون شققهم، كما كانوا مثله يشعرون فى قرارة نفوسهم بالضجر فى هذه المدينة، ونجدهم يستعذبون هذا الشعور بالوحدة والقلق، بل ويسعون نحوه وكأنها رغبة «بطرسبورجية» أن تكون الأشياء مُضجرة أكثر. ويقول الباحثون الذين شاركوا فى هذا الكتاب البديع إن دستويفكسى ألّف ما يزيد على الثلاثين عملاً، ظهرت بطرسبورج فى عشرين منها. نجدها أحيانًا فى خلفية الأحداث، وفى أغلب الأحيان نراها شخصية فاعلة. وكثيرًا ما نجد أماكن شديدة الصلة ببطرسبورج فى كل رواية من رواياته. وكأنها الصورة التوضيحية الأفضل لرواياته. أما هو فلديه الأماكن التى يحبها والوقت الذى يحبه والفصول التى يفضلها. وأكثر ما يزعجه فيها فصل الصيف، فهو فصل الأتربة والروائح الكريهة وكتْمة الهواء، أما أفضل مواسمها فهو الخريف عندما لا يكون غائمًا بشدة. وكثيرًا ما يصف بطرسبورج لحظة غروب الشمس وأشعتها المائلة، وهى صورة للشمس موجودة فى معظم رواياته. يقول :»إننى أحب شمس مارس فى بطرسبورج وبخاصة لحظة الغروب. وفى المساء يكون الصحو شديد البرودة، إذ يلتمع الشارع بأكمله وقد غمره ضوء ساطع، وتتلألأ البيوت فجأة فى لحظة خاطفة، وإذا بألوانها الرمادية والصفراء والخضراء المتسخة تفقد ما يكتنفها من كآبة، وكأن الروح قد غمرتها البهجة. وفى الأيام الغائمة تسود فى المدينة الكآبةُ والجهامة وتُفتقد الألوان باستثناء اللون البنّى الذى يظلله الأصفر الشاحب أو الأخضر الممتزج بالرمادي». لاشك إذن فى أن منظر بطرسبورج الشاحب البارد يشبه إلى حد كبير أبطال دستويفسكي. فقد أحب راسكولينكوف (فى رواية الجريمة والعقاب) سماع الغناء على صوت الأرغن اليدوى فى مساء بارد حالك الظلمة، لابد أن يكون حتمًا شديد الرطوبة، عندما تكتسى وجوه المارة بزرقة شاحبة، فتبدو مريضة، حبذا لو ينهمر الثلج حينئذ مُبلّلاً على نحو عمودى دون أن يكون هناك أى أثر للريح، وتسطع مصابيح الغاز من خلاله». ودستويفسكى يسعى دائمًا لحل لغز هذه المدينة، يحاول أن يسبر كنهها، يتفرس فيها وكأنه شخص عابر بالصدفة. وكثيرًا ما كان يصف نفسه وهو يتحرك فيها بالواهم والصوفي، يقول: «وإذا بفكرة ما غريبة تتحرك بداخلي، لقد شعرت برجفة شديدة، وإذا بقلبى كأنه ينبوع يفيض بالدم الساخن، وفجأة إذا به يفور من جرّاء تدفق إحساس هادر لم أشعر بمثله بعدها أبدًا، وكأنه قد انكشف أمامى عالم جديد تمامًا، أظن أن وجودى يبدأ منذ هذه اللحظة». فى هذه اللحظة تمامًا أمسك دستويفسكى بروح بطرسبورج، وأدرك - نهائيًّا - ازدواجية هذه المدينة. تتحول هذه المدينة الحلم إلى المدينة الشبح، حيث كل شيء فيها مصطنع وغير واقعي. كانت المدينة تتبدَّى له أشبه بمسرح العرائس يحركها مهرج ما بشكل ساخر!. هذا كتاب نادر فى دراسة المكان وعمق تأثيره فى المبدعين المنتسبين إليه، وكيف استلهموا الشخوص والأبطال والمواقف والصفات والألوان والأمكنة والشوارع والنواصى والمحال وأماكن اللهو والعربدة وغيرها. ولقد منحت بطرسبورج روائيها الأكبر دستويفسكى كثيرًا من ملامح إبداعه وآفاق عبقريته ونضارة كتاباته وخلود آثاره. ومن حظنا - نحن القراء - أن أتاح لنا المترجم المرهف الحسّ الدكتور أنور إبراهيم - الذى حافظ على شاعرية النص الأصلى - وقتًا للمتعة والنشوة الروحية، فى زمن تملؤه النوازل والأحداث وتعصف بهدوئه المفاجآت والتوقعات. لمزيد من مقالات فاروق شوشة