في مقالة الأسبوع الماضي تبلورت أسئلة ثلاثة ستلاحق الرئيس المقبل لمصر. السؤال الأول عن حالة الانقسام المجتمعي القائم حالياً. إنه بلا شك سؤال التحدي الكبير. ماذا سيكون موقف الرئيس المقبل من المعضلة الإخوانية التي تتفاعل كل يوم وتزداد تعقيداً. في الإجابة عن السؤال يبرز خطابان مجتمعيان أولهما خطاب الاجتثاث والإقصاء الذي يري أصحابه أن هذه هي اللحظة التاريخية المواتية لاستئصال تيار الإخوان المسلمين من الحياة السياسية المصرية. وثانيهما هو خطاب المصالحة وإعادة إدماج المكوّن الإسلامي ضمن المسار الديمقراطي. الخطاب الاول يبدو استئصالياً ويكاد يذكرنا بتجارب أليمة ضيقة الأفق وقعت فيها دول أخري وحينما استفاقت ظلت تلاحقها عقدة الشعور بالذنب وتأنيب (الضمير) . ثم لم تتردد هذه المجتمعات ذات (الضمير) في معظم إن لم يكن سائر الحالات في تقديم اعتذار تاريخي لضحايا هذا الاستئصال . أما الخطاب الثاني (خطاب المصالحة والإدماج) فتفرضه أبجديات السياسة ويوجبه المبدأ الديمقراطي وتؤكده حقوق المواطنة . بالطبع تمثل المعضلة الإخوانية ذروة هذا الانقسام لكن الانتباه واجب لحقيقة أن الانقسام بدأ يطول شرائح وقوي سياسية أخري لا تنتمي فكرياً أو سياسياً إلي جماعة الإخوان المسلمين. لدينا في المجمل تيار متصاعد يعاني من الشعور بالرفض والإقصاء بل والتحقير. ربما يبدو هذا التيار الآن في حالة انزواء واعتزال للمظاهرات والاحتجاجات بفعل القبضة الأمنية الشديدة والاعتقالات العشوائية لكن حالة انزوائهم واعتزالهم يجب ألا أن تقلل من خطورة ظاهرة الانقسام المجتمعي فهو انقسام كامن مكتوم وهذا ليس في صالح الوطن ولا في مصلحة النظام السياسي المقبل خصوصاً وأن مواجهته الكبري المقبلة هي مواجهة اقتصادية بامتياز . وبداهة فإن المطلوب لإنجاز هذه المواجهة الاقتصادية هو تهيئة مناخ مجتمعي متصالح. ثمة عبارة بالغة الأهمية وردت في خطاب استقالة المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي من منصبه كوزير للدفاع حين قال « نريد الوطن لكل أبنائه دون إقصاء أو استثناء أو تفرقة، نمد أيدينا للجميع». سيكون إذن علي المرشح الرئاسي الأوفر حظاً أن يترجم العبارة الواردة في خطابه الهام إلي برنامج عمل لإدماج ( الجميع ) داخل المسار الديمقراطي .. الجميع بدون إقصاء أو استثناء أو تفرقة. ونحن نفهم أن المترادفات الثلاثة مقصودة لتأكيد المعني والنية في آن معاً. السؤال الآن كيف سيتحقق إدماج الجميع داخل المسار الديمقراطي؟ من المفهوم أن هناك طرفين معنيين بعبارة ( الجميع) هما جماعة الإخوان المسلمين والمنتمين إلي الحزب الوطني ممن اصطلح علي تسميتهم بالفلول. فهل ثمة شروط لتحقيق هذا الإدماج ؟ الشرط الأول الذي يتبادر إلي الذهن والوارد في خطاب المشير هو « استبعاد من تتم إدانتهم بالقانون «. هنا تتوالي التساؤلات والتحديات. وابتداء فإن موقف المنتمين الي الحزب الوطني يبدو أفضل من موقف المنتمين إلي جماعة الإخوان المسلمين لأن إدانتهم تبدو سياسية بأكثر مما هي قانونية أو قضائية. أما أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فقد تمت إدانتهم سياسياً وقانونياً برغم تحفظات وتساؤلات خطيرة ومقلقة علي الإدانة القانونية ذاتها. لو كان لدينا قانون للعدالة الانتقالية لتجاوزنا الكثير من المشكلات والتحديات القائمة الآن . لكن في ظل غياب مريب ومأسوف عليه لمثل هذا القانون فإن المعالجات المطروحة حالياً لاستخلاص معيار الإدانة بالقانون لا تخلو من ارتباك وتناقض فضلاً عما تنطوي عليه من شبهات قوية لمخالفتها لمعايير العدالة والإنصاف ومبدأ سيادة القانون. والأمثلة عديدة. أحكام بالحظر تصدر من غير الجهة القضائية المختصة، وقرار فريد من نوعه لا نعرف من هو العبقري الذي أشار به علي رئيس الوزراء فأعطي لنفسه ما يوازي السلطة التشريعية لإنشاء الجرائم وتقرير العقوبات. وبافتراض وجود منطق موضوعي بفحوي هذا القرار فإن الأصول الدستورية والقانونية كانت تقضي بأن يتم ذلك بموجب قرار بقانون يصدره رئيس الجمهورية المؤقت. وهناك الحكم القضائي ( المدهش ) الذي ترددت أصداؤه في كل أرجاء الدنيا والذي قضي بإعدام 528 متهماً بعد جلستي محاكمة فقط لا غير. وهناك الارتباك القانوني القائم حالياً بين حكم قضائي باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة محظورة وشمول الحظر لكل ما ينشأ عنها ويتفرع منها بينما لم يصدر بعد قرار لجنة شئون الأحزاب بحل حزب الحرية والعدالة. أما قانون تنظيم الحق في التظاهر فقد أسهم في الواقع في الحد من حركة التظاهرات الكبيرة لكنه تسبب ومازال يتسبب في الإساءة الشديدة للمرحلة الانتقالية والقائمين عليها. لعلّ المظهر الوحيد للرشد القانوني في المشهد الحالي هو القرار المتزن لرئيس الجمهورية المؤقت بإعادة بحث مشروعي قانوني مكافحة الإرهاب وطرحهما للحوار المجتمعي. الأمثلة السابقة، وأخري غيرها . هي جزء من الإرث الثقيل الذي سيؤول إلي الرئيس والمقبل حين يسعي للوفاء بوعده في إقامة « وطن يتسع للجميع دون إقصاء أو استثناء أو تفرقة». مجرد تساؤل من يفسر لنا لماذا يحرم مشروع قانون العقود الحكومية الجديد المواطنين من الطعن في عقد حكومي لمخالفته أحكام القانون أو لشبهة فساد ؟ ألم يتم إلغاء عقد بيع شركة عمر أفندي بفضل طعن من أحد المواطنين الغيورين علي المال العام ؟ لمن يبدو معنيّاً بالإجابة علي السؤال برجاء المقارنة بين نص المادة 34 من دستور 2014 الذي يمثل تراجعاً مستتراً وماكراً مررنا عليه جميعاً مرور الكرام حين نقارنه بالنص المقابل له في دستور 1971 بل وفي دستور 2012 . الثورات الحقيقية لا تتراجع بشعوبها إلي وراء الوراء (!! ) لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم