لقاء ترامب المرتقب بنظيره الصينى يدعم ارتفاع بيتكوين إلى 111,410 دولار    انخفاض سعر الفراخ .. أسعار الدواجن والبيض اليوم 24-10-2025 بالأقصر    إزالة أدوار مخالفة لتراخيص البناء فى عدد من العقارات بحى الزيتون بالقاهرة    الوزير: افتتاح مصنع جديد في صناعة الضفائر الكهربائية للمركبات قريبا    «القومي للمرأة» ينظم تدريب حول الشمول المالي والقروض البنكية والاستثمار    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 24 أكتوبر    مساء اليوم.. حركة «حماس» تسلّم جثتي إسرائيليين    الجيش الروسي يعلن سيطرته على أربع قرى في شرق أوكرانيا    قمة في لندن تبحث تزويد كييف المزيد من الصواريخ البعيدة المدى    16 مركزا يضم نقاط لتسليم السلاح.. تفاصيل خطة حزام أمريكا الإنسانى فى غزة    رئيس فنزويلا يتحدى ترامب: أنا الشعب    جيروزاليم بوست: حماس قادرة على تحديد مكان 10 جثامين بدون مساعدة    الزمالك يواجه ديكيداها الصومالي الليلة في إياب دور ال32 من الكونفدرالية الأفريقية    موعد مباراتى بيراميدز والتأمين الإثيوبى فى دورى أبطال أفريقيا    أوسكار رويز يطير للإمارات 4 نوفمبر لحضور مباريات السوبر المصرى    3 مصريين يتأهلون إلى نصف نهائى بطولة أمريكا المفتوحة للاسكواش    طقس الإسكندرية مشمس نهارا مائل للبرودة آخر الليل.. فيديو    ضبط 2 طن صابون سائل المجهول المصدر بحملة تموينية بشبين القناطر    أمن الجيزة يحدد هوية الشاب ضحية حريق غرفة بالعياط    إحباط تهريب هواتف ومستحضرات تجميل بمطار الإسكندرية الدولي    ضبط 1340 مخالفة مرورية لعدم ارتداء الخوذة    القبض على تشكيل عصابي بحوزته كمية من الأسلحة غير المرخصة في قنا    المايسترو تامر فيظى يقود الليلة قبل الختامية لمهرجان الموسيقى العربية    دياب وأحمد زاهر ومصطفى قمر يدعمون تامر حسني بعد خضوعه لعملية جراحية    500 قطعة من مكتشفات مقبرة توت عنخ آمون تزين المتحف المصرى الكبير    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة.. وحكم الاستماع إليها من الهاتف    سر ساعة الإجابة يوم الجمعة وفضل الدعاء في هذا الوقت المبارك    دعاء الفجر.. اللهم اجعل لنا نصيبًا فى سعة الأرزاق وقضاء الحاجات    وزارة الصحة تعلن محاور المؤتمر العالمى للسكان والصحة والتنمية البشرية    مجلة فوربس: رئيس الرعاية الصحية ضمن أبرز 10 قادة حكوميين بالشرق الأوسط لعام 2025    سر قرمشة المطاعم في مطبخك| طريقة سهلة عمل الدجاج الكرسبي الذهبي    حملات توعوية لطلاب المدارس في سيناء بمبادرة "مصر خالية من السعار 2030"    هل تم دعوة محمد سلام لمهرجان الجونة؟.. نجيب ساويرس يحسم الجدل    «النيابة الإدارية» تشرف على انتخابات «الزهور» بالتصويت الإلكتروني    القائمة النهائية للمرشحين لانتخابات مجلس النواب 2025 في الإسكندرية    قبل مواجهة إيجل البوروندي.. توروب يعالج الثغرات الدفاعية للأهلي    الأزهر يجيب.. ما حكم صلاة المرأة بالبنطلون ؟    وزير الدفاع ورئيس الأركان يلتقيان رئيس أركان القوات البرية الباكستانية    البابا تواضروس يفتتح المؤتمر العالمي السادس للإيمان والنظام في وادي النطرون    جامعة القاهرة: إقبال كثيف من الطلاب على ندوة الداعية مصطفى حسنى.. صور    «ديمية السباع».. حين تتحدث حجارة الفيوم بلغة الإغريق والرومان    فرق سلامة المرضى تواصل جولاتها الميدانية داخل الوحدات الصحية ببني سويف    التوبة لا تغلق.. عالم أزهري يوضح رسالة ربانية في أول آية في القرآن    آخر فرصة للتقديم لوظائف بشركة في السويس برواتب تصل ل 17 ألف جنيه    هنادي مهنا: «أوسكار عودة الماموث» يصعب تصنيفه وصورناه خلال 3 سنوات بنفس الملابس    فردوس عبدالحميد: كنت خجولة طول عمري والقدر قادني لدخول عالم التمثيل    موعد تطبيق التوقيت الشتوي في مصر 2025.. تعرف على تفاصيل تغيير الساعة وخطوات ضبطها    قيادي بتيار الإصلاح الديمقراطي الفلسطيني: الحضور الدولي في شرم الشيخ يعزز فرص الاستقرار    «مبحبش أشوف الكبير يستدرج للحتة دي».. شريف إكرامي يفاجئ مسؤولي الأهلي برسائل خاصة    تعطيل الدراسة أسبوعًا في 38 مدرسة بكفر الشيخ للاحتفال مولد إبراهيم الدسوقي (تفاصيل)    سعر الدولار الأمريكي مقابل بقية العملات الأجنبية اليوم الجمعة 24-10-2025 عالميًا    نوفمبر الحاسم في الضبعة النووية.. تركيب قلب المفاعل الأول يفتح باب مصر لعصر الطاقة النظيفة    فتاة تتناول 40 حبة دواء للتخلص من حياتها بسبب فسخ خطوبتها بالسلام    «مش بيكشفوا أوراقهم بسهولة».. رجال 5 أبراج بيميلوا للغموض والكتمان    التجربة المغربية الأولى.. زياش إلى الوداد    مدرب بيراميدز يتغنى بحسام حسن ويرشح 3 نجوم للاحتراف في أوروبا    ماكرون: العقوبات الأمريكية ضد روسيا تسير في الاتجاه الصحيح    إصابة 10 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بالشرقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواد التنوير
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 04 - 2014

ابو تذكرنا ثورة الياسمين الرائدة فى تونس بشاعر الثورة التونسية أبو القاسم الشابى فى ثلاثينيات القرن الماضى. وتشكل قصيدته التى تتحدث عن الشعب وإرادة الحياة واحدة من القصائد التى لا تنسى. وهى القصيدة التى صارت الأبيات الأولى الخالدة منها على لسان كل عربى ثائر قديماً وفى الزمن الحالى على وجه الخصوص:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة لا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر فى جوها، واندثر
فويل لمن لم تشقه الحياة من صفعة العدم المنتصر
كذلك قالت لى الكائنات وحدثنى روحها المستتر

هذه الأبيات

التى يفتتح بها الشاعر قصيدة "إرادة الحياة" هى من أروع ما ضمه ديوانه «أغانى الحياة». فى هذه القصيدة خصوصاً، وفى أخواتها الكثيرات، تبرز بوضوح الهموم الكبرى التى رافقت الشاعر على امتداد حياته القصيرة. فقد غادر الحياة فى الخامسة والعشرين من العمر. وكان الشاعر فى الجزء الأخير من أعوام حياته القصيرة أسير مرض عضال ظل يعذبه حتى قاده إلى الموت المبكر. لكن شباب تونس ومثقفيه وعماله، إذ تأخروا فى الاستجابة لندائه، فإنهم استطاعوا فى فترة قصيرة من الزمن، بإرادة الحياة عندهم، أن يحققوا الانتصار المعجزة، الذى أنعش توقهم العارم إلى التحرر من نظام الاستبداد الذى ساد طويلاً فى تونس.
هموم الشابى التى عبرت عنها أشعاره كانت متعددة. إلا أن همه الأساسى الذى استولى عليه وعلى مشاعره وعلى أفكاره كان تحرير بلده تونس. وللتحرير، بالنسبة إليه، معنى يرتبط فى ذهنه بحب الحياة. فتحرير البلاد من السيطرة الأجنبية يعنى عبورها إلى الحرية. وعندما تصبح البلاد حرة لدى حصولها على استقلالها يصبح الشعب هو صاحب القرار فى اختيار طريقة حياته وفى اختيار الأشكال والصيغ التى تجعل هذه الحياة فى المستوى الذى يليق بالانسان. ذلك أن الشابى كان منذ مطالع شبابه محباً للحياة بكل المعانى التى يرمز إليها ويعبر عنها العشق الإنساني، باعتبار أن الإنسان هو الأساس فى الوجود والقيمة الأساسية فيه. وكانت أشعاره تعبّر بدقة عن هذا الحب العميق عنده للحياة التى لا تكون حقيقية إلا إذا اقترنت بالحرية.
ولد

أبو القاسم الشابى فى عام 1909 فى قرية «توزر» فى منطقة "الشابية، التى تنسب إليها عائلته. كان والده محمد بن أبى القاسم الشابى قاضياً شرعياً. أجيز من الأزهر بعد دراسة دامت سبع سنوات قضاها فى القاهرة. التحق بعد تخرجه من الجامع الأزهر بجامع الزيتونة. وحصل هناك على شهادة «التطويع»، بعد عامين من الدراسة فى الجامع. وهى الإجازة العليا للدارسة. عين قاضياً شرعياً بعد عام من ولادة ابنه أبو القاسم. وقادته وظيفته "الشرعية" إلى التنقل فى العديد من المدن التونسية. ويشيد عارفو الشيخ والد أبو القاسم بمناقبه حين كان قاضياً شرعياً. كما يشيرون إلى وطنيته، و إلى صدق انفعاله بالأحداث التى كانت تشهدها البلدان العربية فى المشرق وفى المغرب على حد سواء. ويقول عنه ابنه أبوالقاسم:"...إنه أفهمنى معانى الرحمة والحنان. وعلمنى أن الحق هو خير ما فى هذا العالم وأقدس ما فى الوجود".
رافق أبو القاسم والده فى تنقله فى المدن التونسية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، على امتداد السنوات العشرين من مهمته كقاض شرعي. وقد ترك هذا التنقل فى المدن التونسية، والتعرف إلى تراث كل منها وإلى عاداتها، أثراً كبيراً فى مدارك ووعى ومشاعر أبى القاسم، ليس فقط فيما يتعلق بامتلاك المعرفة الحقيقية بشعبه وبتاريخ بلده، بل كذلك فيما يتعلق بمعرفته بالجوانب المختلفة من الحياة، حياة الناس البسطاء، والجوانب المختلفة من طباع البشر، والجوانب المختلفة التى تميزت بها الطبيعة فى بلده. وهى جميعها أمور برزت آثارها بوضوح فى شعره. يقول شقيقه محمد فى تقديمه لديوان أبو القاسم "أغانى الحياة" حول الأثر الذى تركه فيه هذا التنقل فى المدن التونسية: "هذه مراحل من حياة أبى القاسم وشبابه عملت على تضخم تجربته وتدفق شاعريته وازدهار ريشته. أفاد منها الشاعر ما يفيده كل عابر سبيل متيقظ واع، إذا ما استقر بأرض كان ربيبها لا ابنها الأصلي. فأطلقه هذا المصير من حدود البيئة الضيقة وأكسبه 'تونسية' إنسانية الآفاق".
فى الخامسة من عمره أرسله والده إلى «الكتاب» فى مدينة «قابس». وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره أدخله «جامع الزيتونة» فى العاصمة تونس، الذى كان الوالد ذاته قد تخرج منه قاضياً شرعياً. ويبدو أن التعليم فى جامع الزيتونة، كما يقول بعض الرواة، لم يكن يرضى "أبو القاسم"، وأن شيوخ الجامع لم يكونوا راضين عن مواقفه التى كانت تعتبر بالنسبة إليهم مواقف متطرفة. إذ هو كان منذ بداية شبابه ناقداً للتقاليد معترضاً على ممارستها وعلى سيطرة أصحابها على المجتمع التونسي. وهو ما عبرت عنه منذ وقت مبكر أشعاره. لذلك فإن تكوّن ثقافته كان خارج جامع الزيتونة. كان فى مكتبة ابن خلدون وفى الندوات الأدبية، وفى الكتب التى كان يبحث عنها فى كل مكان. وقد ساعدته طموحاته المبكرة إلى امتلاك المعرفة، وإلى البحث عنها حيث كانت تتوفر له مصادرها. وصار منذ وقت مبكر صاحب ثقافة واسعة، لا سيما فى ميادين الأدب. فاطلع على تاريخ الأدب العربى وتراثه منذ الجاهلية حتى العصر الحديث. وتعرف إلى المدارس الأدبية ومدارس الشعر. واستطاع بجهده الخاص أن يتابع ما كان يصدرمن دواوين لشعراء العراق ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين، وما كان يصل إليه من أعمال أدبية لأدباء المهجر، وبالأخص منهم جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي. بل هو استعان بعدد من أصدقائه الذين كانوا يتقنون الفرنسية والإنجليزية ليطلع منهم ومعهم على الآداب الفرنسية والإنجليزية والأوروبية عموماً، وعلى رموزها. وكان لكل من لامارتين وبيرون وجوته موقع خاص ومميز عنده. وكان يسعى للحصول على ما كان قد صدر من ترجمات لكبار شعراء تلك البلدان.
فى عام 1927 نال الشابى شهادة "التطويع" من جامع الزيتونة. لكنه لم يعتبر أن بمقدور تلك الشهادة أن تهيئ له الدخول إلى الحياة. فاختار الانتساب إلى كلية الحقوق، تلبية لنصيحة والده. فى تلك الفترة بالذات، وقبل أن ينهى مرحلة دراسته فى كلية الحقوق، واجهته فى حياته صعوبات ومآسٍ. تمثلت أولى تلك الصعوبات فى زواجه من فتاة لم يكن يرغب الزواج منها. تزوجها مرضاة لوالده. وكان زواجاً فاشلاً، رغم أنه أنجب من ذلك الزواج ولدين. لكنه كان يحب فتاة منذ مطالع شبابه، لم يتمكن من الزواج منها. فكان حبه عذرياً. وحين توفيت تلك الفتاة خلفت فى حياته مأساة، سرعان ما جاءت وفاة والده لتضاعفها. والمعروف أن "أبو القاسم" كان شديد الحب لوالده، وشديد التعلق به والإحترام والتقدير له وللدور الذى لعبه فى حياته. وظل تراكم المآسى يلاحق الشاعر الشاب إلى أن افترسه هو بالذات. فقد أصيب بعد وفاة والده بعام أو عامين بمرض تضخم القلب. وظل أسير هذا المرض الذى عجز الأطباء عن شفائه منه إلى أن قضى عليه وهو فى الخامسة والعشرين من شبابه. وكان ذلك فى عام 1934.
يقول الدارسون

لسيرة الشاعر ولتفاصيل حياته أنه كان، منذ طفولته، ضعيف البنية، نحيلاً. ويقول البعض الآخر ان مرض تضخم القلب كان رفيقه منذ الولادة. ويضيف آخرون بأن تنقله مع والده فى المدن التونسية، بين الساحل والجبل، أى بين المناخات الطبيعية المختلفة حتى التناقض، ربما يكون قد أثر فى بنيته الضعيفة، وأسهم فى تفاقم مرض تضخم القلب عنده. وهى مجرد روايات قد تكون صحيحة، وقد لا تكون. إلا أن ما هو مؤكد، فى نظر بعض الباحثين، أن ذلك التنقل فى المدن التونسية قد وهب الشاعر إمكانية التعرف إلى شروط حياة شعبه فى مناطق البلاد المختلفة من تونس. كما أتاح له أن يستمتع بالطبيعة المتنوعة فى بلده بين الساحل والجبل. ويبدو أن التمرد على التقاليد، الذى برز عنده فى وقت مبكر من حياته، لا سيما فى مرحلة دراسته فى جامع الزيتونة، هو الذى جعل شعره ينبض بعشق الحياة وحب الحرية. وكان من مظاهر حبه للحياة وعيه المبكر بحق المرأة فى الحرية. وهو ما عبر عنه فى الكثير من مواقفه، وفى الكثير من قصائده. وهو ما جعل بعض دارسى أدبه وسيرته يعتبرونه مكملاً لقاسم أمين فى حمل راية تحرير المرأة. ويشير فى الكثير من أشعاره التى تشكل المرأة محورها إلى أن المرأة بالنسبة إليه هى أكثر من أنثى، على أهمية كونها أنثى. فهي، بالنسبة إليه، إنسان قبل كل شيء. أى أنها ليست، بالنسبة إلى الرجل، مجرد أنثى، وعلاقة جنسية، وزوجة وأم. ويبدو أنه، وفق ما تحدث عنه بعض دارسيه، كان عاشقاً للنساء، عاشقاً بالمعانى المتعددة التى تتمثل فى المرأة.
وقد أشرت إلى أنه أحب فتاة فى صباه حباً عذرياً. وحين توفيت حزن على فراقها كثيراً. وظل زمناً طويلاً أسير حبه لها وحزنه عليها. لكنه برغم حبه الجم لها أحب أخريات من دون أن يشير إلى تفاصيل ذلك الحب. وعلى أى حال فإن حياته القصيرة ومرضه لم يسمحا له بأن يحدد لنفسه شكل تعامله مع المرأة، تلك التى تزوجها وأنجب منها ولدين، واللواتى يجرى الحديث على أنه أحبهن من دون زواج.
غير أن المهم بالنسبة إلينا هو ما تركه لنا الشاعر من شعر، وما خلفه شعره، وما خلفته مواقفه فى الأدب والحياة من أثر. ذلك أن «أبو القاسم الشابى» لم يكن شاعراً وحسب. وهو كان شاعراً كبيراً وصاحب مدرسة خاصة به فى الشعر. بل هو كان أيضاً صاحب موقف ورأى فى الأدب وفى الحياة وفى قضايا بلده تونس، التى كانت ترزح تحت نير الإستعمار الفرنسي. وبهذا المعنى فإن الحديث عن أبى القاسم الشابى ينبغى أن يطال هذه الجوانب كلها من شخصيته. وهى قد برزت بوضوح فى شعره، وفى المقالات التى كان ينشرها حول الأدب والسياسة.
وهى مقالات لم أتمكن من الإطلاع عليها، لكننى قرأت إشارات عنها فيما كتبه عنه الباحثون فى أدبه وفى مواقفه السياسية. والإنطباع الراسخ عندى وعند الكثيرين من أبناء جيلى هو أن الشابى كان فى الأساس شاعر الحرية. وهذا ما دفعنى لافتتاح حديثى هذا عنه بالأبيات التى شاعت وسادت منذ أن أطلقها الشابى حتى أيامنا هذه. وهى تشير إلى معنى الحرية بالنسبة إليه، وإلى ارتباطها بالشعب، الذى هو المعنى بها، وصاحب الكلمة فيها، والقادر على انتزاعها من مغتصبيها.
جدير بالذكر هنا أن المرحلة التى نشأ فيها الشابى وعاش حياته القصيرة، كانت حافلة بالنضال من أجل استقلال بلده تونس وتحررها من السيطرة الإستعمارية الفرنسية. وقد شهدت تلك المرحلة أشكالاً مختلفة من الكفاح من أجل الحرية، بما فى ذلك الكفاح المسلح.
وتشكلت منظمات سياسية لتلك المهمة النضالية حملت طابعاً إسلامياً، وقادتها شخصيات إسلامية. لكنها قمعت جميعها.
ونفى قادتها وسجنوا، وتعرضوا لأشكال مختلفة من العقاب. ولأن الشابى كان منذ صباه، فى المرحلة الدراسية الأولى، وفى جامع الزيتونة، معروفاً بتمرده، وبرفضه لكل القيود على حياة البشر، من تقاليد بالية ومن خرافات وبدع كانت تعمم باسم الدين ضد قيمه الروحية، فإن الكفاح من أجل حرية شعبه كان واحداً من همومه الكبرى. بل هو تطلع إلى كفاح الشعوب العربية فى المشرق، وتعاطف معها، واعتبرها مكملاً لكفاح شعبه التونسى.

تونس الجميلة

يقول فى قصيدة «تونس الجميلة»، تعاطفاً مع شعبه، ومع قادة نضاله:
لست أبكى لعسف ليل طويل، أو لربع غدا العفاء مراحه
إنما عبرتى لخطب ثقيل، قد عرانا، ولم نجد من أزاحه
كلما قام فى البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهى بالعسف أماتو صداحه ونواحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يرد جماحه
وتوخوا طرائق العسف والإرهاق تواً، وما توخوا سماحه
هكذا المخلصون فى كل صوب رشقات الردى إليهم متاحه
غير أنا تناوبتنا الرزايا واستباحت حمانا أيّ استباحه
ويوجه غضبه إلى الطغاة فى قصيدة بعنوان "إلى الطاغية"، واعداً إياهم بغد آخر. يقول:
لك الويل يا صرح المظالم من غد إذا نهض المستضعفون، وصمموا
إذا حطم المستعبدون قيودهم وصبوا السخط أيان تعلم
أغرّك أن الشعب مغض على قذى وأن الفضاء الرحب وسنان، مظلم
ألا إن أحلام البلاد دفينة تجمجم فى أعماقها ما تجمجم
ولكن سيأتى بعد لأى نشورها وينبثق اليوم الذى يترنم

لكنه

ما أن يرى أن كفاح شعبه عاجز عن تحقيق أهدافه فى الحرية، يوجه، فى قصيدة بعنوان "إلى الشعب" صرخة مدوية إلى شعبه. يقول:
أين يا شعب قلبك الخافق الحساس أين الطموح، والأحلام
أين يا شعب، روحك الشاعر الفنان أين الخيال والإلهام
أين يا شعب، فنك، الساحر الخلاق ين الرسوم والأنغام
إن يمّ الحياة يدوى حواليك فأين المغامر، المقدام
أين عزم الحياة؟ لا شيء إلا الموت، والصمت، والأسى والظلام
هذه النماذج من شعره التى تعبر عن تعلقه بالحرية، حرية شعبه، وحريته هو، هى التى تركت الإنطباع عنه بأن الأساسى فى شعره هو هذا النموذج الصارخ بحب الحرية.
إلا أن الشابى كان شاعراً متعدد الجوانب فى شعره. وكان هذا التعدد يعبّر عن الجوانب المتعددة فى شخصيته. وقد حفل ديوانه "أغانى الحياة" بنماذج من شعره تعبر عن هذا التعدد فى شعره وفى شخصيته. وتوزعت قصائد الديوان بين تلك التى يعبر فيها عن حبه، وعن آلامه ومعاناته فى الحب، وتلك التى يعبر فيها عن بعض مظاهر الشقاء فى حياته، ووفاة حبيبته، وفشله فى الزواج، ووفاة والده، ومرضه الذى قاده إلى الموت.
يقول فى قصيدة بعنوان "مأتم الحب":
ليت شعري!
أى طير
يسمع الأحزان تبكى بين أعماق القلوب
ثم لا يهتف فى الفجر، برنات النحيب
بخشوع، واكتئاب؟
ويقول فى قصيدة بعنوان «الكآبة المجهولة»:
أنا كئيب،
أنا غريب،
كآبتى خالفت نظائرها
غريبة فى عوالم الحزَن
كآبتى فكرة مغرِّدة
مجهولة من مسامع الزمن
ويقول فى قصيدة بعنوان "أيها الحب":
أيها الحب! أنت سر بلائي وهمومي، وروعتي، وعنائي
ونحولي، وأدمعى، وعذابي وسقامي، ولوعتي، وشقائي
لكن الشاعر كان مولعاً بالطبيعة، طبيعة بلده تونس، والطبيعة عموماً. وقد هيأت له ذلك تنقلاته مع والده فى مناطق ومدن تونس المختلفة فيها الطبيعة فى الأرض وفى السماء، على حد سواء. وكتب قصائد عديدة يتغنى فيها بالطبيعة وبجمالها وبتنوعها المدهش.
ويقول فى قصيدة بعنوان «من أغانى الرعاة»:
أقبل الصبح يغنى للحياة الناعسة
والربى تحلم فى ظل الغصون المائسة
والصبا ترقص أوراق الزهور اليابسة
وتهادى النور فى تلك الفجاج الدامسة
هذه النماذج من شعره ليست سوى نتف لا تغنى القارئ عن العودة إلى قصائده بكاملها، قصيدة قصيدة، لكى يرى كيف أن شعره يعبر بصدق عن تنوع همومه، وعن غزارة وصدق مشاعره، وعن أفكاره وعن تأملاته وعن هواجسه الخاصة به، وهواجسه العامة التى تتعلق ببلده وبشعبه. ولعل من المفيد، فى هذا السياق، أن نقتطع بعض الأبيات من قصيدة بعنوان "قلت للشعر"، التى يتحدث فيها عن مفهومه للشعر، مواربة، وفى لغة الشعر ذاته. يقول:
أنت يا شعر، فلذة من فؤادي تتغنى، وقطعة من وجودي
فيك ما فى جوانحى من حنين أبدى إلى صميم الوجود
فيك ما فى خواطرى من بكاء فيك ما فى عواطفى من نشيد
فيك ما فى مشاعرى من وجوم لا يغنى، ومن سرور عهيد
فيك ما فى عوالمى من ظلام سرمدي، ومن صباح وليد
فيك ما فى عوالمى من نجوم ضاحكات خلف الغمام الشرود
فيك ما فى عوالمى من ضباب وسراب، ويقظة، وهجود
فيك ما فى طفولتى من سلام، وابتسام، وغبطة، وسمود
فيك ما فى شبيبتى من حنين وشجون، وبهجة، وجمود
فيك- إن عانق الربيع فؤادي- تتثنى سنابلى وورودي
أبو القاسم الشابى الشاعر هذا لم يكن الشعر ميدانه الوحيد للتعبير عن شخصيته وعن همومه واهتماماته. فقد حاول ذات عام، قبيل وفاته، أن يكتب يومياته فى شكل مذكرات. لكنه توقف عن الكتابة بعد شهر واحد من البدء بها. وتشير الفقرة التالية من تلك اليوميات إلى مأساوية الوضع الذى كان فيه فى تلك الفترة. يقول الشابي"ها هنا صبية يلعبون بين الحقول. وهناك طائفة من الشباب الزيتونى والمدرسى يرتاضون فى الهواء الطلق والسهل الجميل.
ومن لى بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنى لى ذلك والطبيب يحذر عليّ ذلك لأن بقلبى ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامى ومستودع أحزاني. وأنت ظلمة الأسى التى تطغى على حياتى المعنوية والخارجية".
غير

أن الشابى لم يكتف بالتعبير شعراً عن آرائه فى الشعر وفى الأدب عموماً. بل هو ألقى فى عام 1929 محاضرة فى قاعة الخلدونية فى تونس العاصمة تحت عنوان "الخيال الشعرى عند العرب" عبر فيها عن موقفه من الأدب العربى فى كل عصوره. وكان ذلك الموقف نقدياً إلى حدود المبالغة. الأمر الذى أثار انتقادات واسعة له. ووصلت حدة النقد له إلى أنه حين ذهب لإلقاء محاضرته الثانية وجد القاعة فارغة. فعاد مكتئباً.
لكن ذلك الحادث لم يدعه يتخلى عن التعبير عن مواقفه فى النقد الأدبي، لا سيما فيما يتصل بآرائه فى الشعر. يقول فى مقدمة ديوانه «الينبوع»:
... والحق إننا نخطئ كثيراً إذا حاولنا أن نفرض على الشاعر آراءنا وأخلاقنا ومذاهبنا فرضاً. ولن نجنى من وراء ذلك إلا تضليل المواهب الجديدة الناشئة، وسخرية المذاهب الكبرى، السائرة إلى النور. وليس لنا أن نطالب الشاعر فى شعره "بغير الحياة".
وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه الحياة رفيعة سامية، تتكافأ مع ما للشعر من قدسية الفن وجلاله. ففى الحياة كثير من الحماقات والدنايا، يتعالى الفن عن التدانى إليها من سمائه العالية».
ويتابع: «.... أن يحرص الشاعر كل الحرص على التعبير عما يدوى فى أعماق نفسه من أصداء الحياة، وما يخالجها من وحى هذا الوجود، وعلى ألا يضيع من ذلك شيئاً ما استطاع إليه سبيلاً». ثم يقول: «إن كل تقصير فى ذلك يعد خيانة لأمانة الفن. فالشاعر لم يوجد إلا ليؤدى رسالة الكون الذى لا تسكت ألسنة الهواتف فيه. وكلما قصّر الشاعر فى أداء هذه الرسالة كان خائناً لرسالته، وغير مخلص لفنه».
ويضيف بلغة الشعر:
ما الشعر إلا فضاء يرف فيه مقالى
فيما يسرّ بلادي وما يسر المعالى
وما يثير شعوري من خافقات خيالى
هذا هو أبو القاسم الشابى الشاعر الذى ترك لنا برغم قصر حياته هذا الإرث الكبير من الشعر، ومن النقد الأدبى، ومن المواقف الجريئة من الحياة والوجود، ومن القضايا ذات الصلة بحرية البشر وحرية الشعوب وحقها فى النضال لامتلاك هذه الحرية بكل الوسائل المتاحة.
لمزيد من مقالات كريم مروَّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.