قبل ثمانية أعوام، فى الثالث من شهر أبريل " نيسان" عام 2006،غاب عن أرضنا الشاعر والسارد والمسرحى السورى الاستثنائى، محمد الماغوط، ليحلق متفرداً فى ذاكرة الناطقين بلغة الضاد أو لغة الحزن المرير. فى أواخر الخمسينات، وفى أحد اجتماعات مجلة" شعر" قرأ الشاعر السورى الشهير أدونيس بعضاً من قصائد الماغوط على الحضور دون ذكر اسم ابن وطنه على من يقرأون ويفكرون باللغة الفرنسية، فنسبوا القصائد إلى من يعرفون من الأيقونات الفرنسية، بودلير ورامبو، لكن صاحب القصائد لم يكن إلا الشاب الأشعث غير المهندم المرتبك -وقتئذ- محمد الماغوط: إنني هنا فناء عميق وذراع حديدية خضراء تخبط أمام الدكاكين والساحات الممتلئة بالنحيب واللذة إنني أكثر من نجمة صغيرة في الأفق أسير بقدمين جريحتين والفرح ينبض في مفاصلي إنني أسير على قلب أمّة. لم تكن الحادثة مجرد تدشين من مجلة حداثية ستينية لشاعر من شعراء العربية الكبار، بقدر ما كانت إعلاناً عن حفر بئر شعرية جديدة، مياهها عربية وسطورها فرنسية، ماء الشعر فيها خارجة على بحور " الفراهيدى " وأوزانه و قوافيه، وسطور القصائد وحروفها تنفلت من تفعيلات الشعر الحر المنغمة انفلات اليد من القيد، قصائد تحمل يقينها الخاص، ودفقاتها الكاشفة حد النبوءة، وحد ملامسة زرقة سماء الشعر الصافية والدخول إلى أبواب مملكة الحروف من أجمل طرقها الصدق تاج الماغوط –"وصولجانه، ودليله فى تيه الشعر ومتاهاته، فالشاعر لم يسر يوماً وسط حراسة تنظيرية من رهبان النقد، ولم تدفع به شاشات الوهم العربى إلى الناس رغماً عنهم، بل لم يطرح نفسه شاعراً، ولم تشغله معارك القبائل الشعرية وغزواتها اليومية بين العمود والتفعيلة والنثر، فحروفه كانت ساخنة حد احتراقه بها، واحتراق القراء بوهج صدقها، فالشاعر الريفى الخارج من قرية " السلمية" كتب قصيدته الغنائية الخادشة للروح على نار هواجسه وحزنه، متجاوزاً بها كل الغنائيات العربية العاطفية والتجريبية، لأنها سكنت روحه " بسكاكينها " الحادة والمؤلمة تحت تأثير مخزون يأسه ومرارة عزلته التى عاشها واكتوى بها، وبسبب الخوف الذي لازمه واكتشفه في السجن رهينا للاعتقال السياسى، الخوف الذى دفعه لكتابة أول قصائده " القتل " دون أن يسميها شعراً، واستمر فى كل كتاباته بعد ذلك من " قتل " إلى " قتل " محاولاً ترميم أزمته الروحية الحادة داخل محبسه، وقدمه فى دواوينه الشعرية الثلاث: حزن في ضوء القمر 1959، غرفة بملايين الجدران 1960، الفرح ليس مهنتي 1970، وفي مقالاته وروايته الوحيدة "الأرجوحة" ومسرحياته المتعددة،. عاش لتنزف روحه قطرة قطرة وحرفاً حرفاً على مقصلة أيامه وأيامنا العربية. وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء يدبجون قصائدهم أمام ميكروفونات المؤسسات الرسمية، كانت نصوصه تفتح وعينا على الواقع المُزرى بكل خشونته، لنقترب من الوجه من الآخر للحقيقة، وليعترف الذين كتبوا قصيدة النثر جعلوه أباً وإماماً وصاحب طريق، والذين التزموا بعمود الشعر وتفعيلته استثنوه عن الآخرين دون حتى أن يقرءوه.ولم يكن غريباً أن يتوقف صوت الماغوط الشعرى عن غنائه ونشيجه منذ السبعينات وحتى رحيله، فهجر الشاعر مملكة الشعر إلى زحام البشر، وغاب الشاعر فى بلاط الصحافة وخشبات المسرح واستديوهات السينما والتليفزيون، ولم يكن الشاعر فى انتقالاته الإبداعية سوى جمرة ملتهبة مدادها زنازين وسجون الواقع العربى المتهرئ، وأصلها شاعر يسير على حبل النار بقلبه وأصابعه. ◀كاتب وشاعر مصرى