الحكاية التى تحكيها لنا صاحبة الصوت الحريرى فايزة أحمد معروفة ومكررة وقديمة قدم الزمان، ومع ذلك فإن عبقرية الصوت، وسحر الكلمات، وعذوبة اللحن، جعلت الحكاية تبدو جديدة، وكأننا نسمعها لأول مرة. الحكاية- ومنذ إغواء زليخة زوجة عزيز مصر للنبى يوسف- هى غيرة النساء من النساء، والتى تبلغ أحيانا حد تقطيع الأيدى بالسكاكين. إن المرأة تغار دائما من المرأة، وتحسدها، وتكيد لها، بالحق وبالباطل. وهكذا تأتى فايزة أحمد، فى رائعتها" ومادام معاى"، التى كتبها أبو الشعراء عبد الرحمن الأبنودى، ولحنها عم الملحنين محمد سلطان، لتعيد على مسامعنا الحدوتة من جديد: إن نساء القرية مغتاظات جدا من فايزة، ويغرن منها، ويحسدنها على حب حبيبها لها، وإخلاصه فى زمن عز فيه الإخلاص.( هل ياترى يكون سبب الغيرة فشل رجال هؤلاء النسوة فى إسعادهن كما أسعد حبيب فايزة حبيبته؟ قد يكون ذلك كذلك، وربما هناك أسباب أخرى لا نعلمها وتعلمها النسوة!) المؤامرة بدأت كالتالى، تقول فايزة: " بيقولوا داير على حاله". إنه اتهام لطالما تعرض له الرجل لأنه رجل. لاحظ كيف أن الأبنودى استخدم لفظ" داير". إنه استبدال ذكى وألمعى لاصطلاح مواز هو" دايرة على حل شعرها"، وهى كناية شعبية على استعداد الحبيبة( وغير الحبيبة!) لبذل الغالى والرخيص للحبيب .. لكن لأن ليس للرجل شعر ليحله، قالت فايزة داير على حاله. هذا هو الاتهام، فكيف أبطلت فايزة المكيدة؟ ببساطة أمسكت بالأدلة الدامغة، وقدمتها لنا، فاقتنعنا. لقد كان الحبيب- ساعة توجيه الاتهام- جالسا معها.. فكيف إذن ومتى يخون؟ تقول: (مع إنه كان فى الساعة دى/ قاعد معاى.) ولا تكتفى فايزة بهذا الدليل وحده، بل تؤكد أن هذه القعدة لم تكن أى قعدة والسلام، وإنما( بنقسم اللقمة/ ونضحك/ وبنشرب شاى). رد فايزة- والحق يقال- مفحم، وكفيل بقطع لسان كل من يتقول على حبيبها بالباطل. إن الحبيبة الذكية قدمت لنا فى مرافعتها قرائن أربع: أولا حبيبها كان معها فى البيت، وثانيا كانا يقتسمان اللقمة، يعنى موش هو لقمة وهى لقمة، لا.. إنها لقمة واحدة، ويقتسمانها معا، فى تأكيد على مدى المودة والروقان بينهما. ثم ثالثا، كنا نضحك، وياعينى على الصهللة، ورابعا، وزيادة فى التأكيد، شربنا الشاى أيضا. ولنتوقف هنا قليلا.. لماذا الشاى تحديدا يا خال أبنودى؟ إن الأبنودى- الألمعى- يعرف أن للشاى مفعول السحر عند الغلابة، كما أنه يعرف أيضا أن للشاى مغزى خطيرا جدا إذا شربته المرأة مع من تحب، فمتى بالضبط شربت الشاى يا شاطرة؟ الشاطرة لم تقل لنا، وتركت الموضوع لذكائنا( أو ربما لتزيد النار فى قلوب عازلاتها اشتعالا، خاصة لو لم يكن فى بيوتهن شاى، وربما ليس بها رجال أيضا!) ثم.. وبعد الإفحام المذل للغريمات، تأخذ فايزة فى حصر مسوغات هذا الحب الكبير الذى دفع الحبيب الولهان للبقاء معها بالبيت. إنه العشق المتواصل، غير المشكوك فيه، المسيطر على قلب الحبيب، حتى لو حكمت عليه الأيام بالغياب عن بيته( حيث الحبيبة) لسنة أو أكثر من سنة. إسمعوها تؤكد بكل الثقة: (بيقولوا ياما/ وأنا عارفة أنا/ أنا عارفة خلى يعشقنى أنا/ لو خطى بره بيته سنة/ ينده عليا/ وانده عليه/ فى ليالى الشوق يسمع نداى.) إنه الشوق إذن.. وآه من الشوق وعمايله.. على رأى الست أم كلثوم!