رغم تأثيره الذي قد يفوق تأثير عشرات المقالات والتحقيقات الصحفية ، يظل « الكاريكاتير» فنا «مظلوما» في مصر، فنادرة هي الكتب التي تؤرخ له ، أو لرموزه ، او مدارسه، واذا كان جيل الرواد من الرسامين قد حظي على الاقل بالشهرة والنجومية بحكم تميز وضع «الصحافة» في زمنهم، فان الاجيال التالية ، لم يتسن لها الحصول على أي شهرة، رغم كل هذا الفيض من الصحف والمجلات.. في كتاب «ساخرون وانا منهم» الذي صدر مؤخرا ،يصحبنا رسام الكاريكاتير الشاب هاني شمس في جولة مكوكية ممتعة عبر الزمن مع أجيال متفاوتة احترفت الكاريكاتير، عبر مجموعة حوارات صحفية أجراها مع 16 رساما،لنكتشف من خلالها، ليس فقط الجوانب الخفية في شخصياتهم وبداياتهم الفنية ورحلة نجاحهم، بل نتعرف على ما هو أعمق ، حيث دهاليز عوالم الصحافة والسياسة وخبايا المجتمع المصري ،منذ عبد الناصر حتى محمد مرسي. الطريف ان إجراء تلك الحوارات الصحفية لم يكن ابدا هدفا لشمس، بل شاءت الاقدار ان يقوم بها بدلا من صديقه الصحفي بأخبار اليوم الذي اعتذر لانشغاله، وكما كشف لنا الفنان الشاب فانه لم يكن يعد أسئلة قبل اجراء أي حوار، وانما كان يشغل «المسجل» ليدور الحوار بشكل عفوي وتلقائي لساعات، و ما سهل الامر، معرفته الوثيقة بمن يجري معهم الحوارات، فهو في النهاية صديقهم و«منهم» ،على حد تعبيره.
هو أنت؟! نبدأ الرحلة مع الفنان جورج بهجوري الذي يشع طفولة وتلقائية رغم أعوام عمره الثمانين .. بهجوري توقع بعد ان رسم الفنان بيكار برأس تشبه الكمثري ان «يأخده قلمين» ، لكنه اخذه بالحضن وعرفه على الفنان صاروخان في أخبار اليوم الذي قال» الولد ده عينه بتشوف الحاجات بشكل مختلف»، ويتذكر بهجوري الذي كان دائما ما ينتقد برسومه الرئيس السادات ، عندما التقي زوجته السيدة جيهان منذ سنوات في حفل توقيع كتابها» أملي في السلام» فتقدم منها لتوقيع الكتاب وعرفها بنفسه فردت عليه» هو انت؟» وأحس كأنها تريد ان تقول له» ده انت نكدت على جوزي «! ويكشف لنا الفنان أحمد طوغان «الولد الاشقي من محمود السعدني»كما يصفه شمس، رحلات الصعود والهبوط التي يتعرض لها رسام الكاريكاتير، والتنقل المستمر من صحيفة الى اخرى، فيحكي عندما طلب منه علي أمين أن يرسم فكرة بعينها، فرسم فكرة أخرى، لان الاولى لم تعجبه، فقال له علي أمين في حزم» احنا الرسام بتاعنا يرسم اللي احنا عاوزينه» فخرج من «اخبار اليوم» بلا رجعة وكان مرتبه 80 جنيها ليعود الى جريدة الجمهور المصري براتب 12 جنيها! مرارة الرئيس أما عمرو سليم «المتواضع دائما» فرسب في الثانوية العامة بسبب استهانته بالامتحان وانشغاله بالرسم ،ثم أعاد السنة ونجح» على «الحركرك» لكنه مع ذلك استطاع بعد سنوات قليلة ان يهز الدنيا برسوماته في روز اليوسف وجريدة العربي، ودخل في معارك يومية مع اباطرة الحزب الوطني من خلال رسوماته علي صفحات جريدة المصري اليوم، فيقول: اتهمت بإهانة رئيس الجمهورية بعد رسم كاريكاتير لمواطن يشكو لطبيبه من ألم المرارة، فرد الطبيب: انت مين انت عشان تجيك المرارة يا هلفوت؟!، وكان حينها قد تسربت معلومات عن علاج الرئيس مبارك من المرارة في ألمانيا. الفنان جمعة الذي يعتبره شمس حلقة الوصل بين كل الاجيال المهتمة بالكاريكاتير، لا ينسي موقفا شعر معه انه «سيضيع» عندما رسم صدام حسين على غلاف مجلة روز اليوسف في اوائل التسعينيات كبطل رياضي بفانلة «حمالات» في معركة مصارعة، وكان العراق وقتها يقترب من امتلاك السلاح النووي، وفي زيارة له للعراق لاقامة معرض مع عدد من الرسامين، فوجئ بمجموعة من حزب البعث تقتاده الى احد الاركان وتطلب منه رفع الرسمة لانهم لم يعتادوا على رؤية «الرئيس القائد مهيب الركن» عاري الكتفين ،فرفع الرسمة فورا »! أبلة رضا الفنان «الخجول» سعد الدين شحاتة، وعلى عكس كثير من الرسامين الذين اكتشفت موهبتهم على يد مدرسيهم ، يتذكر ابلة رضا التي وجدت رسوماته في كراسته وهي تقوم بتصحيحها، وعندما اخبرها بزهو انه من رسمها، اذا بها ترمي الكراسة في وجهه وتقول له» اتنيل اديك بوظت الكراسة»، ومن المواقف الطريفة التي يتذكرها شحاتة انه عندما تأخر تعيينه في الاهرام وكان حينها «مرتبطا وعايز يتجوز»، سافر للعمل في جدة في جريدة» المسلمون»، فزارته مجموعة من هيئة «الامر بالمعروف والنهي عن المنكر «ليخبروه ان الرسم حرام وانه لو اراد الاستمرار عليه ان يرسم الاجسام بشكل نصفي ، وقبل ان يدخل معهم في نقاش حاد،أشار له رئيس التحرير بعينه لينهي الحديث، وعاد بعدها للرسم بشكل طبيعي وكأن شيئا لم يكن». أما الفنان» المتأمل» وليد طاهر فيتذكر فضل العمل في مجلة « صباح الخير»، حيث قابل فيها «اسطوات المهنة» وعنهم يقول: الكتاب «بيفهموا» في الرسم والاخراج، والرسامون بارعون في الكتابة واختيار العناوين». ومن المواقف الطريفة التي لا ينساها طاهر عندما تم تعيينه في المجلة ، حيث كان يعمل من قبل بالقطعة ويحصل في الشهر على 1200 جنيه، الا انه بعد التعيين أصبح مرتبه في الشهر 250 جنيها فتساءل في دهشة «بتباركولي على ايه»! الفنان فرج حسن «الفخور بمنوفيته» رغم إقراره بأن أي تجمع منوفي في أي مكان لابد ان يتسبب في مشكلة، يتذكر كيف حقق شهرة في المنوفية بأكملها عندما برع في كتابة يفط المحلات مع عمل رسم مناسب بجوار اسم المحل يناسب نشاطه، وكان يتقاضي جنيها وربعا في اليافطة ،واحيانا يرسم صاحب المحل على اليافطة بربع جنيه زيادة ،بشرط ان يعجبه شكله. فرج حسن رسب هو الاخر في الثانوية العامة لكن بسبب الكيمياء التي لم يكن يحبها ،خاصة ان موعد امتحانها كان في نفس موعد امتحان القدرات، فاجتاز القدرات لكنه اضطر لاعادة امتحان الكيمياء وحقق حلمه بالالتحاق ب» الفنون الجميلة».
إعدام نكسة 67 أثرت بشدة في الفنان «الودود» عبد العزيز تاج ، لدرجة انه اختار ان يعمل مدرسا في منطقة نائية هي الوادي الجديد ليبتعد عن الاحداث المؤلمة وتم تعيينه بمعهد المعلمين بالخارجة لمدة اربع سنوات ، و كان من الاوائل الذين تمت اعارتهم الى ليبيا،و هناك قدم برنامجا تليفزيونيا بعنوان «بسمة» اشتهر كثيرا، لكنه كاد ان يودي به بعد أن فوجئ بمجموعة من الامن الليبي تقبض عليه، بعد ان وصلتهم معلومة خاطئة بانه رسم القذافي وهي تهمة كفيلة بإعدامه، وحاول ان يشرح لهم، دون جدوى، الى ان أطلوا سراحه فجأة ،بعد ان علم القذافي بالامر، وأخبرهم بأنه يعرف تاج بشكل شخصي . أما الفنان عمرو عكاشة صاحب «الادب الجم»، كان على موعد منذ طفولته مع كتب عذاب القبر في مكتبة والده، فأثر ذلك على رسومه، فكان لا يرسم سوى كائنات غريبة واعتاد رسم العفاريت حتى وصل الي الثانوية العامة ،وفوجئ انه يحلم بأحدهم فتوقف بعدها.. ومن المواقف الطريفة التي تعرض لها بسبب الكاريكاتير، عندما اقام ماهر الجندي -محافظ الجيزة الاسبق- دعوى، بعد ان رسمه مثل علي بابا وحوله «الاربعين حرامي»، فترافع عنه نعمان جمعة رئيس حزب الوفد الاسبق، الذي قال للقاضي» يا فندم لو رجعنا للقصة هنلاقي إن علي بابا هو الرجل الشريف، فضحك القاضي وحكم بالبراءة! نختم مع الفنان سمير عبد الغني الطباخ الماهر، والذي يتذكر مدرسة الرسم عندما طلبت منهم ان يرسموا في موضوعين اما الحج او المولد النبوي الشريف فوجدها موضوعات مكررة، وبالصدفة شاهد في الجريدة اعلانا تتصدره صورة الراقصة نجوي فؤاد فرسمها ، فاعتبرته المدرسة «قليل الادب» وتم نقله الى نشاط الزراعة بدل الرسم. ويتذكر موقفا له مع الفنان الراحل حجازي عندما أخبره انه اعجب برسمة له منذ عام 57 وكيف أضحكه، فحزن حجازي وقال» معنى انك تضحك عليها في 2001 يبقى المشكلة ما اتحلتش من سنة 57». تلك كانت عينة بسيطة مما جاء في الكتاب الذي من المتوقع ان يكون مرجعا مهما في فن الكاريكاتيرفي مصر، ولولا ان عدد صفحاته وصل الى 220 صفحة، لأضاف شمس بقية ما أجراه من حوارات مع عدد آخر من الرسامين.