نحن فى حاجة للأزهر.. وهذه شهادة لا يحتاج إليها الازهر وحقيقة لا يجادل فيها أحد، لكن علينا ونحن نعلن حاجتنا للأزهر، ونؤكدها أن نخاطب الأزهر، ونحدثه عن حاجاتنا، ونصارحه بما يعن لنا مما لا نفهمه من نشاطه أو نعترض عليه، وأن نوجه له السؤال وننتظر منه الجواب.. وسوف أبدا بتوضيح هذه الحقيقة التى نسلم بها جميعا، وإن لم تكن واضحة وضوحا كافيا للجميع، لماذا نحتاج للأزهر؟. نحتاج للأزهر لأن الأزهر تراث وتاريخ متحقق من ناحية، ولأن الأزهر من ناحية أخرى دور مطلوب ومنتظر. والذين يقرأون تاريخنا فى العصور الوسطى يعرفون أن مصر لم تكن تملك من مقومات الوجود الوطنى خلال القرون التى استولى فيها الاتراك عليها الا مؤسستين اثنتين : الكنيسة القبطية التى كانت ترعى شئون من بقى على عقيدته المسيحية من المصريين، والأزهر الذى لم يبق للمسلمين المصريين من مؤسسات دولتهم سواه. فى تلك القرون المظلمة التى امتدت من بدايات القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر لم تكن لنا دولة، ولم يكن لنا جيش وطني، ولم يكن لنا حتى قضاء مستقل، الأتراك كانوا يرسلون لنا الولاة، والقضاة، والعسكر، وكانوا يستخدمون المماليك فى الإدارة، أما نحن فلم يبق لنا إلا الأزهر الذى ظل يكافح الظلمات، ولا يستطيع أن ينجو هو نفسه منها، حتى جاءت اللحظة ووقعت الواقعة التى انهار فيها هذا البنيان المتصدع، وذلك يوم دخل الفرنسيون مصر فانهزم امامهم المماليك والأتراك، ولم يبق فى الساحة الا المصريون الذين هبوا، وفى مقدمتهم علماء الأزهر يقاومون بونابرت وجنوده، وتلك هى الملحمة العظيمة، كما يقول الجبرتى والحادثة الجسيمة التى أعاد فيها المصريون اكتشاف العالم واكتشاف أنفسهم. المصريون اكتشفوا ان الاتراك والمماليك قوى متخلفة عاجزة عن حماية بلادهم، واكتشفوا فى المقابل أن الفرنسيين قوة متقدمة تملك من المعارف والنظم والطاقات ما يبعث على الدهشة، ويثير الاعجاب، أما اكتشافهم الأكبر فهو اكتشافهم لأنفسهم، لقد أدركوا أنهم أمة حية، وأنهم قبل كل شيء، وبعد كل شيء مصريون، فإن كان هذا الاكتشاف قد مكنهم من إجلاء المحتلين الفرنسيين فقد خلصهم فى الوقت ذاته من أوهامهم التى جعلتهم يعتقدون أن وحدة الدين تبرر خضوعهم للأتراك والمماليك، وتجعلهم لهم رعايا مقهورين وأرقاء مستعبدين، وهكذا اجتمعت طوائفهم متمثلة فى الشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الأزهر، والسيد عمر مكرم نقيب الاشراف، والمعلم جرجس الجوهرى ممثل الاقباط، والزعيم الشعبى حجاج الخضرى شيخ طوائف الخضرية ليطلبوا من الوالى العثمانى أن يرحل، ويختاروا محمد على واليا عليهم، فلا يملك السلطان إلا التصديق على هذا الاختيار. ألا يذكرنا هذا المشهد الذى بدأت به نهضتنا الحديثة عام 1805 بالمشهد الذى جمع بين زعماء الأحزاب السياسية، والفريق السيسي، والدكتور الطيب شيخ الأزهر، والبابا تواضروس فى الثالث من يوليو الماضي، وأعلن فيه سقوط دولة الإخوان الارهابيين، والعمل على بناء نظام ديمقراطى جديد؟! ولقد أسهم الأزهر فى بناء النهضة المصرية الحديثة بنصيب وافر تمثل فى رجال الثقافة والسياسة الذين تلقوا العلم فيه، ومنهم رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عبده، وأحمد عرابي، وسعد زغلول، وطه حسين. هذا التراث، أو هذا التاريخ المتحقق نحتاج إليه، لأننا نرى فيه أنفسنا، ونعرف سيرة حياتنا التى كان الأزهر طاقة حية فيها، خاصة حين انفتحت هذه الطاقة على العالم واتصلت بحضارة الغرب وثقافته العقلانية ونظمه السياسة المتحررة. نحن لم نتعلم من الغرب الهدنسة والطب فقط، وإنما تعلمنا منه أيضا الدستور والبرلمان، والمسرح والأوبرا، والقانون وحقوق الإنسان، وتعلمنا حتى تاريخنا الذى لم نكن نعرف منه قبل شامبليون الا الأساطير. الطهطاوى تعلم فى الأزهر، لكنه تعلم أيضا فى فرنسا على يد مسيو شفالييه أو شواليه كما يسميه، والإمام محمد عبده أزهري، لكنه تعلم الفرنسية، وراسل تولستوي، وقابل سبنسر، وكانت مكتبته تضم كتاب (إميل) لجان جاك روسو، و(حياة يسوع) لشتراوس، أما عرابى الذى قضى فى الأزهر سنوات، فكان مغرما بالقراءة، وقد أهداه سعيد باشا (تاريخ نابليون بونابرت) وكان صديقه الانجليزى ألفريد بلنت الذى تزوج حفيدة الشاعر الرومانتيكى الشهير لورد بايرون يحدثه عن صهره الذى وقف إلى جانب اليونانيين فى ثورتهم على الاتراك، ومات فى اليونان. وما قلناه عن الطهطاوى ومحمد عبده وعرابى نقوله عن سعد زغلول وطه حسين ومصطفى عبد الرازق... وخلاصته أن الأزهر الذى لعب دوره الايجابى فى حياتنا هو هذا الأزهر الذى انفتح على العالم، وتفاعل مع ثقافة العصر، أما الازهر المنغلق على نفسه الذى حارب محمد عبده، وحاكم على عبد الرازق، وكفر طه حسين، ووقف مع الملك ضد سعد زغلول، فنحن لا نحتاج له. لكن الأزهر ليس مجرد تاريخ أو تراث، وإنما هو حاضر حى ودور مؤثر نحتاج إليه دائما، وتشتد حاجتنا إليه فى هذه الأيام التى تآمرت فيها علينا، وعلى الإسلام جماعة الإخوان الإرهابية وحلفاؤها الظاهرون والمستترون الذين خلطوا الدين بالسياسة، وخطفوا الثورة، وزيفوا الديمقراطية، وكفروا الدولة والمجتمع، وأعلنوا الحرب باسم الاسلام على نهضتنا الحديثة التى شارك الازهر فى بنائها، فالحرب المعلنة عليها معلنة عليه، وهو ما يظهر فى تلك الحملة المسعورة التى شنها الاخوان الارهابيون وممثلهم القرضاوى على الإمام المستنير أحمد الطيب، كيف يواجه الأزهر هذه الحرب؟ وكيف يدافع الأزهر عن النهضة؟ وكيف يقف إلى جانب العقل والديمقراطية وحقوق الإنسان؟. يجب قبل كل شيء أن نتفق مع الأزهر على أنه مؤسسة علمية نرجع لها لنعرف أصول ديننا ونتفقه فيه، وهذه هى الوظيفة التى أسندها إليه الدستور فى مادته السابعة، فالأزهر فى الدستور هيئة علمية ومرجع أساسى فى العلوم الدينية، أى أن الأزهر معهد علمي، وليس سلطة دينية، كما يريد بعض الأزهريين أن يجعلوه، ليس سلطة، وليس سندا لأى سلطة، كما حدث فى بعض العهود. والأزهر هيئة مستقلة واستقلاله هو الشرط الذى تتحقق به موضوعيته وإخلاصه لرسالته العلمية، فهو لا يتهاون مع حاكم، ولا يتشدد مع محكوم، بل هو لا يتهاون حتى مع نفسه، وقد يتشدد معها، ومن هنا ننتظر من الأزهر أن يراجع ماضيه وماضى الفكر الإسلامى ويعيد النظر فيه، كما ننتظر منه أن يعرف للحاضر حقه، فيجتهد فى فهم اسئلته ويجتهد فى الإجابة عليها، المراجعة لتنقية الماضى من الشوائب، والاجتهاد للاتصال بروح العصر، وتلبية حاجاته، وبهذا بالمراجعة والاجتهاد ينحاز للحق، أى للأمة التى يستمد منها قوته ويؤكد مكانته. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي