الخلافات بين «الست عزيزة» و«الدكتورة فاطمة» مستمرة لما يقرب من أربعين عاما.. خلافات «لذيذة» نابعة من حب كل منهما للأخرى، ولكن الخلاف هذه المرة، والذى انهمرت فيه دموع فاطمة، لا يقل صعوبة بالنسبة لها عن الخلاف الذى سالت فيه دموعها منذ أكثر من 37 عاما وكان سببا فى حضورها لمنزل عزيزة وإقامتها فيه لسنوات طوال هى أجمل سنوات عمرها. فعزيزة من أصول ريفية، تعلمت وعملت مدرسة وانتقلت إلى القاهرة بعد زواجها من أحد أقاربها، لم تنجب ومع ذلك كانت تفيض حنانا على كل أبناء العائلة والجيران.. بعد عودتها من الإعارة باحدى الدول العربية سافرت لزيارة أهلها وحضور زفاف ابنة شقيقها.. الكل فى حالة فرح إلا «فاطمة» الشقيقة الصغرى للعروس، فقد حصلت على الإعدادية بتفوق ورغم أنها مازالت فى الرابعة عشرة من عمرها إلا أن الخُطّاب بدأوا يطرقون الباب، والأب والأم يؤجلان الموافقة لحين الانتهاء من إتمام زواج الأخت الكبرى، فهما من البسطاء الذين لاطاقة لهم بتحمل مصروفات التعليم بالثانوى والجامعة. تدخلت العمة وأقنعت شقيقها وزوجته بأن يؤجلا قرار زواج ابنتهما فاطمة لحين حصولها على الثانوية العامة وستتحمل هى مصروفات دراستها على أن تنتقل للإقامة معها فى القاهرة. انتهى العرس وجمعت الابنة ملابسها وأوراقها وانتقلت إلى القاهرة.. وفى بيت عمتها كل يوم «خناقة»، فعزيزة تعود من عملها لتجدها رتبت البيت وغسلت الأوانى، وتثور العمة مرددة نفس الكلمات التى يسمعها الجيران كل يوم، فهى تريد منها أن تركز فى دراستها وألا يكون لها علاقة ب«شغل البيت» ولا يفض ال «خناقة» سوى تدخل عم أحمد زوج العمة الرجل الطيب. فى عيد الأم تصطحب عزيزة ابنة شقيقها وتذهب معها لشراء هدية لأمها فتفاجئها فاطمة قبل سفرها لتهنئة أمها بتقديم هدية لها اشترتها من مصروفها، فتثور ثورتها مع كلمات التأنيب «اللذيذة» مرددة أنها تعطيها المصروف لنفسها وليس للهدايا وأن هديتها هى نجاحها، ولا يهدئ من هذه الثورة سوى حضن وقبلة من فاطمة التى حصلت على الثانوية العامة بتفوق والتحقت بالجامعة والأبوان لا يملان من مفاتحتها فى الزواج كلما تقدم لها عريس وتتصدى لهم عمتها احتراما لرغبة الابنة المتفوقة فى استكمال دراستها، وبعد تخرجها عينت معيدة وتزوجت من أستاذ جامعى وجهزتها عمتها أفخم جهاز وأقامت لها عرسا يفوق حلم أى عروس. ورغم سكنها فى حى يبعد كثيرا عن سكن عمتها إلا أنها لم تنقطع عن زيارتها الأسبوعية إلا عند سفرها لزيارة أسرتها، وعندما أنجبت طفلها الأول كانت عمتها قد أحيلت للمعاش ورفضت أن تلحق فاطمة ابنها بالحضانة، بل أصرت على أن يقيم معها حتى تتفرغ هى لاستكمال دراستها على أن تحضر للاطمئنان عليه كل يومين، وبعد حصولها على الدكتوراه وإنجابها لطفلها الثانى تكرر معه ما حدث مع شقيقه. الرحلة مستمرة وخلافات عزيزة وفاطمة أيضا، ففاطمة مشغولة دائما ولا تهتم بالترفيه عن ابنيها وتعنفهما وتصرخ فى وجهيهما أحيانا، وعزيزة تتهمها بالتقصير فى حقهما، بل تطالبها بإنجاب طفل ثالث بسرعة حتى تتمكن من مساعدتها فى تربيته وهى فى صحتها ولكنها ترفض. استقر الحال بالدكتورة فاطمة وولديها مع زوجها فى مسكنهم وتباعدت زياراتها لعمتها ولكن اتصالاتها اليومية بها لم تنقطع، ولكن بعد إجراء عمتها جراحة خطيرة وضعف صحتها أصبحت تزورها بصفة شبه يومية لرعايتها والاطمئنان عليها، وأشفقت العمة «الأم» على ابنتها فأبلغتها أن صحتها تحسنت وعليها التفرغ لابنيها وأنها قررت أن تأتى بشغالة مقيمة لخدمتها.. انهمرت دموع فاطمة وظلت تصرخ فى وجه عمتها لأول مرة رافضة أن يقوم بخدمتها أحد غيرها، والعمة مصرة، فاقترحت عليها أن تنتقل للإقامة معها فى بيتها وسط ابنيها وزوجها الذى يعتبرها أما له، فرفضت بإصرار، فاقترحت أن تستأجر لها سكنا قريبا منها فرفضت أيضا، فكيف لها أن تترك بيتها الذى يحمل كل ركن فيه ذكريات غالية مع زوجها ومع فاطمة إبنيها.. فعلى هذا المكتب ذاكرت دروسك وفى هذا الصالون عقد قرانك وفى هذا الفراش نام ابنك فى حضنى.. ولم تجد فاطمة سوى الإنذار بأنها ستجمع أفراد العائلة ليجدوا لها حلا، وهمت بالانصراف وسط دموعها فأشفقت الأم عليها ورجتها أن تمهلها عاما فقط فإذا أمد الله فى عمرها فستستجيب ولكن بشرط ألا تزورها يوميا.. وهنا ثار الخلاف من جديد.. خلاف جميل حتى لو أزعج الجيران.. فبطلتاه مازالتا تتمسكان بقيم الزمن الجميل.