عندما طاف رائد الفن الشعبى، العظيم الراحل زكريا الحجاوى، بر مصر شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، يفتش ب «منكاش» عن مطربين شعبيين، كان يعى تماما ما يحتويه طين هذه البلاد من جواهر أصيلة مرشحة لأن تلمع فى سماء الطرب، وبالفعل توصلت جولاته تلك إلى اكتشاف العديد من المواهب، منها هرم الغناء الشعبى، خضرة محمد خضر، وعمود الموال محمد أبو دراع، والرائع محد طه، وابراهيم خميس، وفاطمة سرحان، وجمالات شيحة وغيرهم من الدرر المصرية الرائعة التى أطربت الملايين من عشاق الفن الشعبى على مر السنين بأصواتها وفنها الذى تشبعت به من تراث ضارب بجذورة فى عمق التربة المصرية الإبداعية، وطورته وأضافت إليه حتى أصبح إنتاجاً متجددا غنياً. إذن فإن مصر لم تتوقف يوما عن ولادة المبدعين فى مجال الغناء الشعبى، الذى سار جنباً إلى جنب مع الغناء التقليدى، مثل «العاطفى» و«الوطنى» وغيرهما من ألوان الغناء، بل إننا لن نكون مبالغين إذا ادعينا أن اللون الشعبى كان أكثر تطوراً من الغناء التقليدى، هذا بالإضافة إلى أن جمهوره أكبر ويتسم بالتنوع، حيث لا تندهش عندما تجد أن الأغانى الشعبية، تعزف وتغنى فى كافة الأماكن الراقية، تماماً مثلما نسمعها فى التوك توك، أو الأفراح الشعبية، وأحيانا ما تتصدر تلك الأغنيات سباق الأغانى، سواء على الانترنت، أو فى محلات بيع الكاسيت، وأيضاً تسجل أعلى نسب تحميل من على الانترنت. وإذا كان الغناء الشعبى الذى عهدناه، قد تطور على يد العديد من كبار المطربين، أصحاب الحناجر القوية، مثلما ذكرنا خضرة محمد خضر، وجمالات شيحا وغيرهما من الأصوات، المبدعة، وقد يكون للدور الذى لعبه التليفزيون المصرى لفترة فى الاهتمام بهذه الأصوات، وتلك المواهب المصرية الأصيلة، هو ما جعل أجيالاً بعينها تتذوق ذلك اللون الغنائى ورموزه، ولكن للأسف مع التغيير فى شكل المجتمع سياسيا واجتماعيا، وخصوصا بعد سفر الكثير من العمالة المصرية إلى الخليج، وتغير مفاهيم الطبقة الوسطي، صارت هناك نظرة طبقية، ومتعالية تجاه هذا اللون، إلى الدرجة التى كانت تشن فيه حملات صحفية، على تجربة مثل تجربة عدوية، إلى أن بدأه عدد من الكتاب يدافعون عنه، ومنهم الراحل الكاتب أنيس منصور، الذى أثنى على اللون الشعبى الذى كان يقدمه عدوية، والريس بيرة، ورآها تجربة مغايرة، كما قام شاعر بحجم مأمون الشناوى بتأليف أغانى له، وصار عدوية نجماً يتهافت عليه منتجو السينما، وصار موضة فى المجتمع المصرى، وهى الأرضية التى مهدها له الحجاوى، وغيره من رموز الغناء الشعبى، فبعد القفزة التى حققها المبدع الكبير عدوية، خرجت علينا تجارب لنجوم شعبيين حققوا جماهيرية كبيرة مثل حسن الأسمر، حكيم، وساعدت السينما هؤلاء النجوم فى تصدر المشهد وتحقيق قفزات كبيرة، وخرجت تجارب شعبية متنوعة وصولاً إلى موسيقى المهرجانات. وقبل 10 سنوات كان الغناء الشعبى فى مصر يمر بمرحلة جديدة، بعد أن تخلى عن زعامته - طواعية واختيارا - شعبان عبدالرحيم وعبدالباسط حمودة وحكيم، ليظهر جيلاً جديداً من المطربين ممن اعتمدوا على نسق غنائى معين كان له تأثيره على الجمهور. فبرز فى صدارة المشهد سعد الصغير وفرقته الاستعراضية، إضافة إلى محمود الحسينى وبعض المطربين الشعبيين من بينهم هدى، إلا أنه قبل أقل من عامين بدأت الأضواء تنحسر عن هؤلاء ليظهر بعدهم جيل آخر يقدم فناً شعبياً تحت مسمى «المهرجانات» وهى الأغانى التى تعتمد على الموسيقى أكثر من أى شيء آخر. وبرزت أسماء من بينها أوكا وأورتيجا وفيجو وعمرو حاحا، حتى أصبح هؤلاء نجوم الشباك فى الوقت الحالي، كما ظهر عدد منهم على شاشات التلفزة فى عدد من الأفلام، لتصبح أغنيات مثل «مهرجان الوسادة الخالية» و«مهرجان قزقز كابوريا» من الأغنيات الأبرز. وإن كان لا يمكن الجزم بشأن هوية مؤسس هذا اللون من الغناء، فإنه يمكن الحصر بين اثنين استطاعا أن يتصدرا المشهد، مؤكدين أنهما صاحبا السبق فى تطويره، هما أحمد فيجو ابن مدينة السلام، وفريق ال «8%» الذى يتزعمه كل من أوكا وأورتيجا. ويبقى الثابت أن أغانى المهرجانات استطاعت أن تشكل جزءا كبيرا من ثقافة المجتمع، فالجميع يطلبها ويتغنى بها حتى فى مناطق مصر الراقية. وكأنها أزالت الفوارق بين الطبقات، حتى إن العديد من الحفلات الخاصة الراقية يشارك فيها نجوم غناء المهرجانات، وأصبحت تلك الموسيقى تملأ كل مكان فى مصر، وعمقت السينما تلك التجارب الغنائية وروجت لها أكثر، وصارت هذه الأصوات جنبا إلى جنب بجوار كبار الأصوات الشعبية لمطربين مثل عبدالباسط حمودة، والحسينى، والليثى، تلك الأصوات، كان كل همها ما تقدمه من كلمة وموسيقا صادرة من الناس، وكلمات تعبر عن همومهم وأوجاعهم، خصوصا أنهم باتوا يعيشون فى مجتمعات هامشية منغلقة عليهم، وصارت هناك موسيقى لا يعرف عنها المثقفون أو متذوقى الغناء بألوانه، المتعارف عليها شيئا، وكان يسمعها فقط كل من يركبون الميكروباصات، وغيرها من وسائل المواصلات العامة، ويبدو أن هناك ارتباطاً طردياً بين زيادة عدد المناطق المهمشة فى مصر والتكاتك، وزيادة عدد نجوم تلك الأغانى، وتسيدها المشهد الغنائي. بخطى أكثر بطئا كان هناك تيار آخر تتشكل ملامحه، وهو الفرق الغنائية المستقلة، والتى يميل أغلبها إلى الموسيقى الغربية، بألوانها المختلفة مثل البوب، والجاز، والبلوز، قليل منهم هو الذى فطن إلى أهمية وشعبية الغناء الشعبي، وقد يكون موسيقار مثل فتحى سلامة، من أوائل من فطن إلى أهمية الأصوات الشعبية، وراهن على نجاحها، وهو ما تحقق له، وسارت على نفس الخطا، بعض الفرق، التى تأكد لها أن هناك موسيقى تنمو بسرعة رهيبة، بعيداً عن المنظرين والمتقعرين، والذين لا هم لهم سوى التقليل من أصحاب هذه التجارب، أو التعالى عليهم، لذلك قامت فرقة كايروكى بالاستعانة فى ألبومهم الأخير «السكة شمال « بعبدالباسط حمودة، حيث أدرك أعضاء فريق كايروكى قيمة وصوت المطرب الشعبى الكبير الذى أضفى سحراً خاصاً على الألبوم من خلال أغنية «غريب فى بلاد غريبة» وهى الأغنية التى اقتربت من تحقيق 200 ألف مشاهدة على موقع اليوتيوب، وتقول كلمات الأغنية «فى وشوش الناس أنا اتأملت، وفهمت معانى واتعلمت، شوفت الغلبان المهموم، وشوفت الشر جوا العيون». ليس ذلك فقط بل إن الألبوم وفى أقل من أسبوع، وصل للمرتبة الأولى فى المبيعات بمتجر بيع الأسطوانات الموسيقية «فيرجين ميجا ستور»، بعد طرحه كما أنه حصل على الألبوم الأكثر مبيعا على «أى تيونز»، بالإضافة لنفاد النسخة الأولى منه خلال يومين.