طبعا وبكل تأكيد فإن معالى رئيس مجلس الوزراء المهندس إبراهيم محلب لم يكن يقصد بحديثه عن منع المياه المعدنية فى اجتماعات مجلس الوزراء إلا مجرد الرمز، او تقديم مثل صغير لما يمكن تحقيقه لوقف الإسراف والهدر والترف الزائد عن الحد، وفى الإطار ذاته أتى كلام رئيس مجلس الوزراء عن اختزال موكبه فى سيارة واحدة فقط. لكن، وبافتراض أن مواطنا ما، متوسط التعليم والذكاء والمفهومية، سمع هذا الكلام ففهمه بحصر اللفظ، ولم يفطن إلى «رمزية» الموضوع.. فماذا يمكن أن يرسخ فى وجدانه؟ .. إنه حتما سيمسك بورقة وقلم، وسيبدأ فى الحساب كالتالى: إن السادة الوزراء عددهم نحو ثلاثين وزيرا، يجتمعون مرة كل أسبوع، يعنى 4 مرات فى الشهر، أى نحو 50 اجتماعا فى السنة، فإذا كان ثمن زجاجة المياه المعدنية الكبيرة جنيها ونصف الجنيه (بسعر الجملة إذ لا يعقل أن يشترى المجلس ماء بالقطاعي!) فإن السادة أعضاء المجلس سيشربون فى السنة 50 *30*جنيه ونصف، يعنى نحو 2250 جنيها، قل 2500! طيب، واذا استبعدنا السادة الوزراء الذين سيكونون فى جولات عمل ميدانية، فى الشوارع وبين الجماهير، وأيضا هؤلاء الذين ستكون لديهم زيارات عمل للخارج، والذين سيصابون لاقدر الله بالزكام او الغثيان من كثرة العمل فلا يحضرون، فإن المبلغ المدفوع للمياه المعدنية قد ينخفض إلى ألفى جنيه فى السنة.. وإذا لاقدر الله، لاقدر الله، لم تكمل هذه الحكومة الموقرة سنة كاملة، فنحن قد نتحدث عن 1500 جنيه فقط كثمن للمياه المعدنية فى عمر الحكومة كله، وهكذا نكون قد حرمنا وزراءنا الأجلاء من حصتهم من الماء النظيف مقابل هذا المبلغ الزهيد. ومن المتوقع طبعا، أن معالى الوزير، بمجرد انصرافه من الاجتماع، سوف يكون حرا، ويستطيع أن يشترى من حر ماله ما شاء من أنواع الماء، حيث لن يجبره أحد على ماء حنفية المجلس، وبالتأكيد فإن أحدا منا ليس بالخبث او سوء النية الذى يصل إلى حد تصور أن حنفية المجلس تختلف عن أى حنفية أخرى فى أى بيت من بيوتنا، فالمواسير هى المواسير، والخزانات هى الخزانات، حتى لو نظفوها! وقد يشاور هذا الشخص المتوسط التعليم والفهم والذكاء عقله، ويسأل نفسه: وماذا لو أتى أحد الوزراء معه من بيته بزجاجة «مشبرة» من ثلاجة بيته، ولفها فى قطعة خيش مبتلة، او بكرة شاش.. فهل يصادرها منه معالى الرئيس؟ (رئيس مجلس الوزراء يعني!) وهل يمنحه القانون هذا الحق؟ وهل فى الأمر شبهة «عدم الدستورية» لاسمح الله؟ ثم إن هذا المتوسط تعليمه وفهمه وذكاؤه قد يسترسل فى أوهامه، فيسأل نفسه: ماذا لو أن السيد الوزير طلب «واحد شاي» وكوبا من الماء، ولما جاء «الطلب» وجاء الماء عكرا أصفر وله رائحة.. فهل يشرب مضطرا لعدم إحراج معالى الرئيس، أم سيعتذر ويظل عطشانا حتى انتهاء الاجتماع؟ وكيف اذن سيفكر وهو ناشف الريق؟ هل يمكنه آنئذ حل مشكلات الجماهير، بينما هو لم يحل مشكلته الخاصة؟ إن متوسط الفهم والتعليم والذكاء هذا قد يترك لخياله العنان، فيتصور أن كل وزير سيترك مع الساعى زجاجة او زجاجتين، ثم يغادر الاجتماع كلما أصابه العطش، ويخرج بحجة الذهاب إلى «بيت الراحة»، وهكذا لن نجد وزيرا راسخا على مقعده، بل سيكونون فى حالة قلق دائم.. فكيف بالله عليكم ينجزون؟ وماذا لو كان الاجتماع ممتدا لست او سبع او ثمانى ساعات، وكان مخصصا لمناقشة أمر جلل، كالحساب الختامى للموازنة، او قضية الدعم، أو أزمة سد النهضة الإثيوبي، ثم.. هوب.. انقطع الماء عن مبنى المجلس وعطشنا وكنا فى الصيف، فكيف سنتصرف عندئذ؟ هل نجرى نطرق أبواب الجيران، أم نفض الاجتماع، ويهرول كل منا الى بيته ليشرب، ام نضطر آسفين لشراء مياه معدنية من الكشك المجاور للمجلس؟ والسؤال المحير الأهم: هل ينطبق قرار الماء المعدنى هذا على السادة المستشارين أيضا؟ فكيف إذن يقبل مستشارون يتقاضون عشرات الملايين من الوزارات المختلفة حرمانهم من زجاجة ماء معدنية، اعتادوا على تناولها منذ نعومة الأظافر؟ إن المهندس محلب رجل «عامل» منذ صغره، وتعايش مع العمال البسطاء فى مواقع العمل، حيث الحر والبرد وشظف العيش، ويمكنه جدا أن يشرب ماء من حنفيات المواقع، بل ومن الآبار اذا اضطر لذلك، لكن هل يستطيع بقية وزرائه أن يحتملوا هذا النوع من الحياة؟ كان الله فى العون. لمزيد من مقالات سمير الشحات