حينما نشعر بأن قلوبنا أوسع من كوكبنا، وأن الوجود كله ليس إلا جزءا منا.. حينما نشعر بالدفء فى قلب الشتاء وتداعبنا عذوبة النسيم فى لهيب الصيف.. حينما تنمو أوراق الأمل رغم أنف الخريف ويأتى الربيع برياح الشوق خالية من أوجاع الخماسين.. عندئذ يكون الحب الذى احتفينا بعيده قبل أيام فيما نفتقده طوال الأيام والأسابيع والأعوام، وقوعا فى أسر الكراهية والحقد، وخضوعا للقسوة والشر، الأمر الذى يحيل عالمنا جحيما، ويجعل دنيانا مقتلة كبرى للروح قبل الجسد. لقد كان الحب الرومانسى أو ما يدعوه الشعراء «عشقا» هو ثانى أكبر وأعمق المحاولات الإنسانية نجاحا، بعد مغامرة الإيمان بالله، للخروج من كهف الوحدة وأسر الذات الفردية والاندماج فى الوجود الإنساني الرحيب.. فالحب طريق للخروج من وحشة العزلة وكآبة الاغتراب إلى فضاء الحميمية والتعاطف مع البشر من كل جنس ووطن ودين، ولذا كان الحب جوهر جميع الأديان حتى غير السماوى منها، وجماع الفلسفات عدا العنصرية فيها.. إنه ذلك السر القدسى الذى لا يُدرك كنهه، وكأنه وحى الأنبياء، أو نشوى المتصوفة.. كأنه فناء الهندوسى فى روح البراهمان الخالد، أو دخول البوذى إلى عالم النرفانا الساكن، أو استواء الكونفوشي على طريق الجين القويم.. لعل القيمة الكبرى للحب أنه يدفعنا للتعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس مجرد موضوعات أو جمادات، بل يدفعنا إلى التعامل مع الجمادات نفسها على أنها حية ناطقة، فالمحبون كثيرا ما يشعرون وكأن العالم يناجيهم، برغبة فى التواصل مع الأشياء التى تنتمى إلى عالم المحبوب، ولذا كان الحب دوما فعلا أخلاقيا وسلوكا نبيلا يقدره البشر حتى أولئك الذين لم يمروا بتجربة الحب، لأن ثمة شعورا لديهم بأن هناك، فى صدور المحبين، يقبع شئ جميل وخير. وربما انصرف المحبون عن الناس وخلوا إلى أنفسهم، ولكنهم يشعرون دوما بدفء لا يجدونه وسط زحام وضجيج البشر لو أنهم افتقدوا محبوبيهم، لأن الشعور بالاغتراب له منابع روحية خالصة وذاتية صرفة تسمو على المكان والزمان. ولعل هذا يفسر لنا قول بعض المحبين الصادقين والمخلصين أنهم يعيشون على ذكرى محبوبيهم الراحلين لدرجة تمنعهم من التواصل مع آخرين، ذلك أن الذكريات الجميلة، ولو كانت بعيدة، تحيط المحب بطيف جميل يعانقه على الدوام ليحول بينه وبين الشعور بالوحشة التى ربما شعر بها وسط أجساد بشرية تحيط به أو تضغط عليه ولكن دون قدرة على النفاذ إلى داخله، وإلهام روحه بأصداء حانية وأطياف دافئة. يدعى البعض أن الحب هو مجرد أنانية مقنعة، فالمحب الذى يتألم لفراق محبوبه، إنما يتألم لنفسه التى فقدت امتدادها، والعاشق الذى يحرص على وصال معشوقه إنما يعكس رغبة فى تملكه، تماهيا مع قول الفيلسوف الألمانى ماكس شترنر بأن الأنا ليست مجرد «ذات»، بل هى الذات الوحيدة فى العالم التى يتوجب حبها. غير أن حب الذات هذا هو حب غير منتج ولا معنى له، لأن بدايته هى نهايته، ومستقبله هو ماضيه.. يشعر العاشقون وكأنهم يسيرون فوق السحاب، وهو ما يفسره العلماء بوجود كيمياء خاصة بالحب تبدأ تفاعلها بالتقاء العيون وتلامس الأيدى وتسرى إلى الدماغ على نحو يبعث فى الإنسان نشوى الحب. ويربط عاشقون آخرون بين الحب وبين الأمل، قائلين مع القديس بولس «المحبة تؤمن بكل شىء وترجو كل شىء»، ومع الكاتب الفرنسى ستندال «الحب نصف الحياة، بل النصف الأجمل فيها».. غير أن الحب لا يعنى أن يرفل المحب فى سعادة أبدية وأمل دائم بل ربما صار الحب نفسه بابا للألم واليأس، خصوصا عندما ينقضى باختفاء المحبوب أو يذبل بصده، فعندها يشعر المحب وكأنه لم يعد شيئا فى هذا العالم، بعد أن كان كل شىء فيه. ولكن هذا الألم وذاك اليأس المتولدين عن فعل الحب يبقيان خيرا من حال الخواء الروحى ينتاب الإنسان فيما لو افتقد الحب، فالحب، كالإيمان ضرورة بشرية لملامسة قلب الوجود الدافق. وإذا كان وقوع المؤمن فى المعصية لا ينفى أهمية الإيمان، فإن شعور المحب بالألم لا يقلل من قيمة الحب.. فى الإيمان تنهض التوبة بتجديد العهد مع الله، وفى الحب يقوم النسيان بمد الجسور إلى الكون، وهنا يقول فيلسوف الوجودية المؤمنة كيركيجورد «اليأس مرض من تلك الأمراض التى يجب أن نعرفها، لأن يقظة الروح لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال اليأس». يقصد كيركيجورد هنا اليأس كعرض جانبى لأمل شاهق ضائع، لا اليأس كغاية مرجوة أو كهدف إنسانى، وهو ما جعل الراهبة البرتغالية ماريانا آلكوفاردو تكتب إلى عشيقها تقول «إننى أشكرك من أعماق قلبى على اليأس الذى دفعتنى إليه. إننى أودعك وأطلب إليك أن تحبنى وأن تزيد آلامى يوما بعد يوم». والمعنى الكامن هنا أن الروح اليقظى، ولو كانت متألمة، أفضل كثيرا للإنسان من روح يملؤها الخواء ويحيطها العبث واللا معنى. قد يتبدى المحب رقيقا هادئا، ولكن فى داخله صلابة كبيرة تنجم عن عزم لا يلين، لأنه دوما يشعر بقوته مضاعفة بفعل التمدد فى شخص المحبوب، وبفعل دوافع كثيرة للحياة من أجله. ولذا يشيع القول بأن الحب يصنع المعجزات، وهو قول صحيح لو أحسنا فهمه، فالمعجزة تكمن فقط فى إرادة الإنسان لو بلغت ذروتها الكاملة، والحب هنا هو عامل تفجير، به يكتشف الإنسان حدود قدرته. وفى المقابل يدفع الحب إلى رضا الإنسان بحظه وقدره لأن الشخص الممتلىء داخليا والمشبع وجدانيا تقل حاجته إلى الأشياء الخارجية كالمال والجاه والسلطان. فالمحب، كالمؤمن، يبدو غنيا جدا وقويا جدا ولو لم يكن حائزا لثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله وقوة حضوره تتركز في ذاته نفسها، وليس ما يحيط بها، ولذا يبقى تأثير هذا المحيط عليه ضئيلا، إذ لا يمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئا كبيرا لديه عزيزا عليه، فيما هم لا يرونه ولا يمكن أن يلمسوه.