يقع هذا الحي خلف مزلقان القطار, وهو كتلة من البيوت, أقيمت من أي شيء أتيح للبناء, لأكثرها أسقف ومظلات من الصفيح والخيش. يرتفع بعضها فتظهر له شبابيك وبلكونات تزدحم بالكراكيب وبالنساء البدينات, والرجال عراة الصدور. وتمتلئ شوارعه بالأطفال شبه العراة, يسيرون إلي حيث يأخذهم السير. وتعيدهم الأيدي مع نداءات ميكرفون المسجد آخر النهار وثمة آخرون بمرايل مدرسية يصخبون في الذهاب والعودة يتوقفون لدي سماع صفارة القطار فيستعدون بقذائف الطوب. في ساحة المسجد, أصطف بعض الأولاد خلف أحدهم, باسطين أيديهم أمام وجوههم. يرددون وراءه.. يا رب إشفي حسنين العجلاتي اللي ساكن عند المزلقان, ورا فرن السباعي.. اللهم آمين. ومسجد الحي ساحة مسقوفة تشبه المخزن, ذهبت أقدام المصلين بنقوش سجاده. وقد تكون هناك شقفة غليظة وقعت من السقف أو الجدران. كاشفة ما تحتها من سدايب خشب. وللمسجد مئذنة كالبرميل, أغلق أحدهم بابها بعارضة من الخشب, كتب عليها بالبوية.. السلم مكسور محدش يطلع. أما القبلة فرسمت رسما فوق الجدار وإلي جوارها عمود الميكرفون. ومنذ سرق صندوق النذور, لم يعد هناك صندوق ولا نذور. بينما كومت علب بوية ولفائف خراطيم وشكاير أسمنت, هي ما جاء به أهل الحي لتحسين المسجد. والميضة نقرة في أرض مبلطة بالأسمنت, علي جانبيها طوبتان. بابها القصير مائل. ملفق من سيور الخشب, تغطيها ألواح شربت من الماء وأصابها العطن. وأمام الباب حنفية تخرج من الحائط مفتوحة طوال الوقت. بينما الرجال يدخلون ويخرجون بملابس العمل, وبعض النساء تحملن الأوعية الملأي بالماء. وينزوي في أركان المسجد بعض ممن ضاقت بهم السبل فناموا. من أحد البيوت جعل الريس حسنين غرفة كمحل عجلاتي. حيث يري مستغرقا في شد الشرائط الملونة بين أسلاك العجل. أو الزعيق في ولد تأخر بالعجلة من غير أن يرفع وجهه عما يؤديه وبينما هو منهمك بين دراجة مبعثرة الأجزاء وطاسات الزيت والشحم, يتناول فجأة خرقه ويمسح يديه ويدخل إلي البيت بهدوء. وبعد لحظات يسمع العابرون صرخات زوجته واستغاثة بناته. ثم يعود ثانية إلي ما كان يؤديه بمنتهي الهدوء إلي دكانه الصغير الذي كان مصدر بهجة لهؤلاء الصغار المصطفين يدعون له في صحن المسجد. فلا شيء يضاهي وقوفهم فوق الكوبري العلوي وهم فوق دراجاتهم. فاتحين أذرعهم, تاركين أنفسهم للانزلاق بخفة إلي الناحية الأخري من الكوبري. مرض الرجل, وطال مرضه. وصارت تسلية الصغار, أن ينتظروا العربات القلابة وهي تحط كل يوم علي تخوم الحي. وتفرغ تلالا من القمامة. يستخرجون منها بعض الطعام الذي لم يتلف وعلبا ملونة وأكواما من قص الشجر. وملابس ينقصها بعض الترميم لتستعمل من جديد. إضافة إلي أشياء كريهة تهرع إليها القطط والكلاب التي تتشممها وتعمل بأبوازها في كتل القطن المبللة والضمادات. ثم تتدافع بالرءوس فوق أعضاء بشرية تخلص منها اللحم بالأنياب والمخالب. أو يجذب أحدها حزمة طويلة من شعر أشقر من قلب الكوم. ويدعها بعد أن يتبين أنها جزء من باروكة, وليس بها ما يؤكل. يري الأولاد المشهد فيمطرون الحيوانات بوابل من الطوب. وتركض الحيوانات المتخمة في كل اتجاه بصورة مضطربة. وتعود مع مجيء عربة المستشفي من جديد. في بيت الريس حسنين كان الرجل يستند بظهره إلي صدر إحدي بناته. تغمس له زوجته قطع الخبز في طبق وتقربها من فمه.. فيمد لها شفتيه وعلي وجهه عرق غزير. وحين يكتفي ويزم شفتيه يندفع صوت ابنته: كمان يابا.. إدي له يا أمه بالعافية.. والنبي بكرة هتبقي عظمة.. دول شوية برد وهينزاحو. بينما يعلو من الدكان المفتوح صوت قرآن يتلي ويندفع هواء يخبط الأبواب ويطير الخرقات المبعثرة. بمرور الأيام صار الرجل بعض عظام تتقاطع تحت جلباب يميل طوقه إلي ناحية. غابت ملامحه التي يعرفها الصغار. وبقي له شاربه الضخم, مع عينين مثل بلحتين صفراوين أصابهما عطب أسود يري مستسلما لامرأتين, تحيطه إحداهما بذراعيها. وتقرب الأخري إلي فمه طبقا يتصاعد منه البخار. تحيط المشهد أصوات تحثه علي شرب ومضغ المزيد. لم يعد الأولاد يضيعون الوقت في السياحة, والتسكع بشوارع الحي الراقي علي الناحية الأخري من الكوبري. ولا في إهدار الأدعية بمسجد الحي البائس. إلي أن كان مساء اتخذوا فيه الطريق إلي المسجد الكبير علي الضفة الأخري من النهر. عساه يكون الدعاء هناك أكثر جدوي. وهو مسجد كبير مثل قلعة. كم تسللوا إلي ساحة المراحيض فيه والتي تترك مفتوحة للعابرين. ساحة مكشوفة, أرضيتها من بلاط كالمرايا. تظللها شبكة من قواطع خشبية نمت عليها خضرة كثيفة يحركون الهواء فتسقط عنها زهور صغيرة فواحة. وأمامها صف طويل من شلالات مياه تندفع بلمسة إصبع تطيرها هبات الهواء في هذا الفضاء المعطر يحيطهم السكوت وهدوء أصوات المتوضئين, وهم يغادرون ببللهم إلي صحف المسجد. أكمامهم مشمرة, وبأيديهم أحذية لامعة كأنها مشتراة للتو. وعبر الباب تظهر ساحة المسجد واسعة خالية إلا من قلة تفرقوا فيها. كل منهم في وضع من أوضاع الصلاة. لا وجود للزحام والصخب, ولا لشيخ بائس مثل الشيخ جودة يرش بودرة البراغيث فوق السجاد, ثم يتجه بالتوبيخ للداخلين والخارجين لغرض غير الصلاة. مسجدكم شاهدوا مآذنه العالية في الليل مطوقة بعقود الأنوار الملونة. صرح جدرانه شاهقة. تبدو من الضفة الأخري شبابيكه ذات الزجاج الملون وبواباته العالية مصفحة برقائق النحاس, والتي متي فتحت, بدا مصلون قليلون يتحركون بهدوء تحت ثريات عملاقة, كأنما هو بهو قصر. ندعو للريس حسنين من هنا قال أحدهم وهو يتقدمهم عبر حديقة, ثقلت أشجارها بثمار لا يقطفها أحد. حولها ممرات رسم بلاطها بالعشب. وثمة ساحة تتراص فيها سيارات المصلين. حتي إمام المسجد هنا له سيارة يسير فيتبعه كثير من موظفيه. ليس مثل الشيخ جودة الذي يعمل بقالا بين الصلوات. وحين يغيب يؤذن ويؤم أي عارف للقراءة والكتابة. سار الأولاد في جملة الداخلين. وكان ثمة رجال تفرقوا علي الدرج العريض, في بدل كاملة. تري من تحتها أجربة السلاح. أوقف أحدهم رجلا يرتدي جبة وقفطانا حائلي اللون. وعلي كتفه شال صعيدي سقطت أكثر شراشيبه. دار بينهما كلام, انفعل له الشيخ, فعلا صوته وأشار بإصبعه إلي السماء. واحتدم الموقف, فجاء رجلان واصطحباه بعيدا إلي الطريق. بينما ترددت كلمات هي خليط من أسماء مشاهير وحفل ديني ومناصب شتي. أدرك الأولاد أن هيئاتهم سوف تفضحهم. فدفعوا بأكثرهم نظافة ووسامة ليتقدمهم, وتبعوه. واندفعوا ضمن تيار الداخلين. هرع نحوهم الرجال الواقفون علي الدرج. لم يتكلموا واكتفوا بثني أكفهم وفردها في وجوههم علامة أن يرجعوا. أشار أحد الأولاد علي رفاقه: يللا ندخل من باب الميضة. فوجد من يمسكه من ياقته, ولم يمهلهم الرجال الأشداء ليشرحوا أمر الصلاة والدعاء للريس حسنين المريض. وفي طريق العودة كانوا أكثر تصميما علي أن يعيدوا المحاولة في غد. لأجل رجل يحبونه. بعدما فقدوا فرصة الدعاء له في ليلة القدر. التي تستجاب فيها الأدعية. ويسمع فيها الله كل البشر.